الصــراع بيــــن الحــــق والباطــــــل: فهم أزمــة العالم المعاصر من موقـــــــع الوحـــي 2

أ. عبد القادر قلاتي/
إنّ تاريخ الحروب والصراعات الدولية بين المجتمعات البشرية قديمة ومصاحبة للإنسان منذ مبتدأ الخلقية الأولى، وفي جزء كبير منها -الصراعات والحروب – لا تخرج عن التأثير الواضح للجانب النّفسي والفكري، فقد فُطر الإنسان على حبّ نفسه، وتقديس ما يؤمن به ويعتقده من أفكار ورؤى وتصورات للحياة وللكون، لذا ينظر دائما للأشياء من موقع اعتقاد مركزيته للكون وللحياة، وهذه الرؤية هي من صنعت الطغاة الجبابرة عبر التاريخ ممن رفضوا الأديان ووقفوا حائلاً دون تحقيق أهداف الرسالات السماوية؛ لأنَّ فكرة الدين مناقضة تماماً لمنطق الطغيان في الأرض،{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36].فالطاغوت وظيفة وهمية يتبناها من به مرض الكبر والعلو {وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْـحَقِّ} [القصص: 39]، والعجب والغرور {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْـحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} [فصلت: 15]. والملك والسلطان {أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِي حَاجَّ إبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْـمُلْكَ إذْ قَالَ إبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} [البقرة: 258]. وهذا فرعون يبرر فجورَه وعلوَّه في الأرض كما أخبر القرآن عنه. يقول: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الزخرف: 51].، ولو أمعنا النّظر في كلّ ذلك لظهر لنا أنّ منشأ هذه الأمراض؛ النّفس الأمارة بالسوء، التي تحوّل كلّ مظاهر الطغيان إلى واقع فكري يحرك سلوكات هذا الطاغية أو ذاك، استناد إليه -أي هذا الواقع – حيث يبرر الطاغية أفعاله وفق هذا الواقع الفكري، ومن هنا تتضح صورة الطغيان في التاريخ البشري، والتي منها: الظلم والتجبُّر والاستبداد: {وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ 10 الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ 11 فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ 12 فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ 13 إنَّ رَبَّكَ لَبِالْـمِرْصَادِ} [الفجر: 10 – 14]، وقال -سبحانه -: {وَإذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} [الشعراء: 130] وقال: {وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} [هود: 59]، القتل والتعذيب والتنكيل: {قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ} [الأعراف: 127]، وقال عنه أيضاً: {إنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إنَّهُ كَانَ مِنَ الْـمُفْسِدِينَ} [القصص: 4]، فرض الرأي ومصادرة الحقوق والحريات: {وَقَالَ الْـمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ} [الأعراف: 127]، ومنطق الطغاة واحد كما قال فرعون لقومه {مَا أُرِيكُمْ إلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر: 29]، وقال: {يَا أَيُّهَا الْـمَلأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إلَهٍ غَيْرِي} [القصص: 38]، وقال لموسى -عليه السلام -: {قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إلَهاً غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْـمَسْجُونِينَ} [الشعراء: 29]، وقال قوم شعيب له ولأتباعه: {قَالَ الْـمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِيـنَ آمَنُوا مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} [الأعراف: 88].
إنَّ فهم أزمة العالم المعاصر لا تخرج عن سياق فلسفة الصراع بين الحق والباطل، ومدى تأثيرها على الفكر البشري، فالعالم المعاصر هو امتداد طبيعي لمسيرة الطغيان والظلم في الأرض منذ الخلق الأول وإلى يومنا هذا حيث تتعدد مظاهره وصوره بنفس النسق القديم، وإن أخذ أشكالاً أخرى فرضتها حالة التطور التي تصاحب الإنسان، أما القاعدة النفسية والفكرية فواحدة، لم تتغير ولن تتغير، حتى يركن الإنسان إلى قوانين السماء التي ما زال يتجاهلها، ويريد أن يكون سيّدًا للكون بعيدًا عنها، يُدير الكون كما يُريد؛ {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِـمُونَ إنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ}. [إبراهيم: 42 – 43].