الإشاعة.. والسياسة

هناك ثلاثة أمور في الحراك السياسي العام لا يستغنى عن معرفتها، إذ تعتبر من محركات الواقع الاجتماعي الرئيسية، وبينها من التشابه ما لا يكاد يرى، ولها من الأثر الإيجابي على حركة المجتمع بالقدر الذي يؤهله إلى القفز بعيدا في النهضة والارتقاء، وكذلك فيها من السلبيات ما يعرضه للتشتت والذوبان لا قدر الله، وهذه الأمور الثلاث هي: الخبر والمعلومة الإشاعة.
أما الخبر فهو من مهام الصحفي، الذي هو مطالب بإعلام المجتمع بكل ما يقع في بلاده وبكل ما يهمه في الحياة، ابتداء من المعلومة السياسية إلى المعلومة الثقافية إلى التسلية…إلخ، وكذلك هو من حق المجتمع على الإعلاميين، وأما المعلومة فهي من مهام الأجهزة الأمنية التي أهم وظائفها الاهتمام بالامن والاستقرار الإجتماعي، والقاسم المشترك بين الخبر الذي هو مهمة الصحفي والمعلومة التي هي مهمة رجل الاسعتلامات، وكذلك بين الإعلامي ورجل الاستعلامات، هو الحصول على صورة ما يقع بالفعل داخل المجتمع وخارجه، ولذلك يسمى المشتغل بالأخبار والمعلومات “مخبرا”، سواء كان إعلاميا فيسمى مخبرا إعلاميا أو مخبرا أمنيا فيقال عنه مخبر أمني، بينما الفرق بينهما هو أن الإعلامي يصل إلى ما يقع بالفعل ليعلم به المجتمع المنشغل بهمومه عما يقع، ليتفاعل مع ذلك الواقع سلبا وإيجابا، أما رجل الأمن فيحصل على الصورة الحقيقية ليكون أكثر تحكما في هذا الواقع، ولذلك نجد أن أكبر مشكلة للمصالح الأمنية مع الناس هي أنها تريد أن تعرف كل شيء عن الناس، بينما الناس لا يريدون أن يكشفوا عن كل شيء في حياتهم لا سيما الخصوصية منها.
فهذان القطاعان يستعملان كل الوسائل للوصول إلى الخبر والمعلومة إقامة لهاتين الوظيفتين، ومن الوسائل المستعملة بينهما هي التعاون بينهما وتبادل المعلومات رغم التباين الوظيفي لكل منهما.
وذلك مشروع ابتداء بطبيعة الحال، باعتباره خدمة للمجتمع، فالصحفي يحرص لأن يكشف عن الخبر للمواطن في أسرع وقت وأقربه، وكذلك رجل الأمن عندما يصل إلى معلومة ما تهدد المجتمع في العاجل أو الآجل، أو تخدمه، ولا يكون هناك خلل ولا تأثيرات سلبية إلا عندما يهتز الجانب الوظيفي في الموضوع، فيصبح الإعلامي لا يهتم إلا بالإثارة وتتبع عورات الناس والفضائح وتصفية الحسابات بين العصب، وتهتم الأجهزة الأمنية بما يحفظ للسلطة استقرارها ودوامها، فيغلب عليها التتبع الدقيق لكل ما من شأنه أن يقلق السلطة، بقطع النظر عن مردودها الاجتماعي والسياسي، عندئذ يغيب الخبر الصادق والمعلومة الحقيقية.
وبحكم أن الإنسان مجبول على تتبع كل ما يتعلق به من أمور عامة وخاصة، فهو يتابع الأخبار السياسية والأحداث والوقائع؛ بل ويتحسس ما يمكن أن تحققه السلطة من خدمات للمجتمع، فإن ما يسد هذه الحاجة في هذا المجال حينئذ هو الإشاعة..؛ لأن الإشاعة هي التي تحل محل الخبر والمعلومة عندما يغيب الخبر وتتعطل المعلومة في الواقع. يظن بعض الناس أن حرمان المجتمع من الخبر أو من المعلومة يخدم المصلحة العامة، بينما الحقيقة هي أن الحرمان من المعلومة أول ما يفتحه هو باب الإشاعة، والإشاعة إذا فتحت أبوابها لا يقدر على غلقه أحد؛ لأن الأصل في الإشاعة أنها مجهولة المصدر، فهي قد تكون من صنع المواطن نفسه وفق تحاليل واستنتاجات؛ لأن المواطن الذي يشح عليه الإعلام والأجهزة الأمنية بالخبر والمعلومة، فإن المخرج عنده هو الانتقال بالقليل من الأخبار والمعلومات إلى التحليل والاستنتاج فيتعامل مع ما يتوصل إليه من تحاليل واستنتاجات كما يتعامل مع الأخبار والمعلومات تماما، وتعامله مع تلك التحاليل والاستنتاجات لا وجه له إلا التفاعل مع الواقع؛ لأن الإنسان بطبعه لا يبحث عن المعلومة والخبر إلا لتساعده على فهم الواقع الذي يتفاعل معه. أو تكون من صنع المخابر المضللة للرأي العام، وهي الأجهزة الاستخباراتية ومراكز البحث وسبر الآراء والقوى السياسية المتصارعة، وكذلك المؤسسات الاقتصادية؛ لأن هذه الفئات يهمها تبليغ رسائل معينة وفهوما وبرامج.. قد لا تصل إلى الجماهير التي تريدها بالنشاط العادي، فيعجزون عن إقناع الناس بالطرق العادية، لسبب من الأسباب فتصنع إشاعات عن أشخاص أو مفاهيم أو منتجات أو برامج أو أحزاب.
والفرق بين مهمتي الخبر والمعلومة من جهة والإشاعة من جهة أخرى، أن الخبر والمعلومة متعلقتان بواقع حقيقي ثابت، أما الإشاعة فمتعلقة بالحدث الذي ارتبطت به، أي أنه تبدو وكأنها حقيقة إلى غاية انتهاء مهمتها، وبعد ذلك تختفي لأنها ليست حقيقة وإنما هي وهم أراده صانعوها لسبب ما او غاية ما.
ومن حسن الحظ أن الإشاعة في الغالب لا تدوم، إذ سرعان ما يكشف أمرها، ولكنها من الناحية السياسية تؤدي مهمتها في الوقت المقدر لها، فلو يشاع مثلا في يوم الانتخابات أن زيدا من الناس المترشح، حركي أو يتاجر في المخدرات أو عميل لدولة أجنبية… فإن الوعاء الانتخابي يتأثر بلا شك ويخسر بسبب ذلك المترشح الكثير من أتباعه.. ولكن هذه الإشاعة قد تختفي ويعرف الناس بعد ذلك أن الرجل بريء ولكن بعد أن فقد ثقة الناس فيه في وقت الحاجة.