مساهمات

رسالـة إلى رواد المعرفـة والثقافـة السننية

أ. د. الطيب برغوث */

 

سعدت كثيرا بخبر مناقشة أخي سي محمد بوقرة أصيل مدينة شمرة العريقة، وخريج جامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية، أطروحة الدكتوراه التي قضى فيها وقتا طويلا، لجدة وصعوبة موضوعها الذي خصصه لدراسة (الفقه السنني في الخطاب الدعوة عند جودت سعيد والطيب برغوث، دراسة مقارنة) كما جاء في عنوان أطروحته، التي أشرف عليها الأستاذ القدير البروفيسور أحمد عيساوي من جامعة الحاج لخضر بباتنة، وشارك في مناقشتها الأساتذة الكبار البروفيسورات حسين شرفة ونور الدين بولحية والأستاذة المحاضرة سعيدة عباس من جامعة الحاج لخض بباتنة، وعيسى بوعافية من جامعة الأمير عبد القادر بقسنطينة، وعبد الوهاب العمري من جامعة أم البواقي، ونال الأستاذ سي محمد بوقرة شهادة الدكتوراه بتقدير مشرف جدا، بعد ما يزيد عن ثلاث ساعات ونصف من التمحيص والمجادلة العلمية الخصبة.

 

تنويه بالعناية بالدراسات السننية
وبهذه المناسبة السعيدة، أريد أن أنوه بالاتجاه المحتشم إلى هذا الحقل المعرفي الحيوي في حياة الأفراد والمجتمعت عامة، باعتبار المعرفة والثقافة والتربية والحركة السننية المتوازنة، هي قدر الأفراد والمجتمعات في حياة دنيوية كريمة وشريفة ومباركة، وحياة أخروية سعيدة، وكون غياب أو اضطراب هذه المعرفة والثقافة والتربية السننية، هو سبب جل الأزمات والاختلالات والمتاعب والمحن التي يعانيها الأفراد والمجتمعات بشكل مطرد.
تنويه برواد الدراسات السننية
كما أنوه بهؤلاء الأساتذة والطلبة الرواد الذين يشقون الطريق نحو هذه المعرفة والثقافة والتربية السننية المتوازنة، ويعبدونها أمام الأجيال، وسط صعوبات بل وتحديات كثيرة من بعض الأوساط العلمية والثقافية التي لا يرى بعضها جدوى في الانفتاح على هذا الحقل المعرفي، لأنه لا يرقى في نظرهم إلى مستوى حقل معرفي جاد، بل هو جهد عام أو ثانوي، يتحرك في إطار ساحة لغوية أو أدبية إنشائية فضفاضة! بالرغم من أن كل الحقول المعرفية تقريبا كانت ساحات فضفاضة، ولكن إصرار العلماء الرواد حولها مع مرور الزمن إلى حقول معرفية منضبطة، وكذلك هذا الحقل المعرفي سيحوله رواد المعرفة والثقافة السننية إلى مصب محوري بالغ الأهمية بحول الله تعالى، وسينالون بذلك فضيلة وأجر السبق فيه.
الدراسات السننية حركة في عمق الوعي الحضاري
وأنا أشد على أيدي هؤلاء الأساتذة والطلبة الرواد، وأدعو الله تعالى أن يشحذ عزائمهم، لأنهم يتحركون في عمق المعرفة والثقافة السننية التي تحتاج إليها الحياة الإنسانية كما أسلفت، وليس هناك علم أو علوم ولدت دون مخاضات واعتراضات ومضايقات ومحاصرات من الحقول المعرفية السابقة لها، وتلك سنة المدافعة المولِّدة للأفكار والمعارف والعلوم، ومن سنة الله تعالى أن العلوم في مباديها ومناشئها لا يدركها إلا المنشغلون بها المتماهون معها، وكثيرا ما لا يحفل بها أهل المعرفة، بل ويخاصمها بعضهم! فإذا تأسست واستوت أدرك قيمتها وأهميتها كل الناس وانتفعوا بها بعد ذلك! وما أعظم قيمة وأقدار مؤسسي العلوم النافعة للبشر، وخاصة إذا كانت هذه العلوم علوم محورية قطبية مؤثرة على عموم حياة الأفراد والمجتمعات، كهذا الحقل المعرفي.
الأهمية البالغة للعناية بالسننية الشاملة
وهذا الحقل المعرفي الذي يعمل بعض الأساتذة والطلبة الرواد على المساهمة في تأسيسه، حقل محوري قطبي بامتياز، لأنه يهتم بالبحث عن سنن فهم الحياة وإدارتها بشكل صحيح وفعال وتكاملي ومتوازن ومفيد لكل الناس، وخاصة إذا اتجه هذا الجهد أو بعضه على الأقل، نحو التأسيس للمنظورات السننية الكلية المؤطرة للحركة المعرفية السننية الجزئية، كما حاولت أنا فعله في أطروحة «منظور السننية الشامة»، ولم يبق هذا الجهد محصورا في السننية الجزئية الوظيفية المبعثرة، كما هو الحال في الواقع المعرفي والثقافي الإسلامي والإنساني عامة، الذي يزداد تعقدا وتجزأ وتأثيرا على الشخصية الإنسانية والحياة الإنسانية.
مبررات العناية بالسننية الشاملة
ومن خلال قراءاتي وتأملاتي ومتابعاتي للواقع الإنساني، رأيت بأن السننية الجزئية في تطور وتوسع مطرد منذ الخليقة، فنحن في كل حين نكتشف سننا جزئية وظيفية جديدة في الحقول المعرفية الجزئية المختلفة، ونراكم كمًّا هائلا من هذه المعرفة، ونستفيد منها جزئيا أو كليا في حياتنا، ولكن مع ذلك فإن حياتنا الفردية والجماعية، لا تتسم بالمزيد من الانسجام والتكاملية والتوازن والفعالية والخيرية والبركة والرحمة المطلوبة، كما هو مفترض، بل تزداد تجزءا واضطرابا وتفككا وسيولة وصعوبة وقساوة وتفاهة.. كما يقول البعض، بسبب غياب المنظورات السننية الكونية الشاملة المطابقة لحقائق الوجود الإلهي والكوني والإنساني، التي تتحرك في إطارها هذه السننية الجزئية بحثا عنها، وإنتاجا لها، واستفادة منها في الحياة.
خطر السننية الجزئية التنافرية على الحياة الإنسانية
فالسننية الجزئية في غياب المنظورات السننية الكلية المرجعية المؤطرة لها، تشكل خطرا كبيرا على الإنسان والمجتمع والطبيعة.. لأنها تمنح الإنسان قوة إجرائية أو تنفيذية مهولة، دون ضوابط مرجعية موجهة لهذه الطاقة نحو مقاصدها الإنسانية الحقيقية، ومخففة من آثارها السلبية على حياته وعلى الطبيعة، وهو ما نراه في كل مرحلة تاريخية يخف فيها حضور الوعي بمنظور السننية الشاملة في حياة الناس، وتندفع الأمور وراء السننية الجزئية السائلة بشكل تنافري منهك، ولذلك يعد البحث عن المنظورات السننية الكونية المرجعية الشاملة، الأولوية الكبرى للإنسان في كل زمان ومكان، وهو ما كانت تقوم به الرسالات السماوية عبر الأزمان، حيث يأتي في كل مرحلة نبي أو رسول يجدد وعي الناس بمنظور السننية الشاملة، ولكن بعد ختم النبوة، لم يبق أمام الإنسان إلا الاجتهاد التجديدي المستمر لبناء هذه المنظورات السننية الشاملة، وتجديد الوعي بها، على ضوء معطيات الهيكل السنني المرجعي الأم الذي انتهت إليه حركة النبوات والرسالات في خاتمة الوحي الإلهي للبشرية على يد محمد عليه الصلاة والسلام.
نموذج من المعضلات التي يحلها منظور السننية الشاملة
وهذه الرسالة التي قدمها الدكتور سي محمد بوقرة، لا تهم شخصي ولا شخص أستاذنا الكبير جودت سعيد رحمه الله، بقدر ما تهم هذه المعرفة والثقافة والتربية السننية عامة، التي يجب أن نهيئ لها مصبات كلية تصب فيها، حتى لا تتحول إلى خطر علينا، وليس هناك مصب أشمل ولا أقدر على استيعاب كل روافد المعرفة والخبرة السننية البشرية الجزئية، مثل «منظور السننية الشاملة»، لأنه المنظور الذي ينفتح على كل ساحات المعرفة والخبرة السننية التي أتاحها الله تعالى للإنسان في ميزانيته التسخيرية الكونية التي وضعت بين يديه لإنجاز خلافته في الأرض، وهذا ما ركزت عليه جهدي منذ عقود طويلة من الزمن، بعد أن لاحظت فيما هو متاح من الأطروحات في مجال المعرفة والثقافة السننية، أن جلها يتحرك في مسارات السننية الجزئية، ويتوغل فيها ويبدع فيها، وليس هناك اهتمام جدي معتبر بمسارات السننية الشاملة.
وأتصور لو أن منظور السننية الشاملة أخذ حقه من الاهتمام مبكرا لدى رواد المعرفة والثقافة السننية، ومنهم الأستاذ جودت سعيد رحمه الله، لما طرحت عنده شخصيا فكرة اللاعنف أو السلام بالمركزية والحدة التي تناولها بها، وكاد يصادر بها حقائق حياتية عدة لا يمكن مصادرتها بأي حال من الأحوال! لأنها تدخلنا في نطاق السننية الجزئية الحدية مرة أخرى، بكل مضاعفاتها التي لا تحتملها الحياة بكل شموليتها وتكامل أبعادها ومعطياتها وتأثير بعضها في بعض، وحاجة بعضها إلى بعض بشكل مطرد.
فالسننية الشاملة تتيح الفرصة للوعي الإنساني، والجهد الإنساني، والطموح الإنساني، والمدافعات والمداولات الحضارية الإنسانية عامة، للانفتاح المتوازن على شروط تنمية كل ملكات وأبعاد الشخصية الإنسانية، وتلبية ضروريات وحاجيات ومحسنات حياتها، ومنحها التوازن المطلوب، الذي ينعكس على توازن الحركة التدافعية والتداولية الاجتماعية والحضارية، ويضمن لها ولو الحد الأدنى من التنافسية والتكاملية والتشاركية في المصالح والمنافع العامة، المقلِّلة والمخفِّفة من الصراعات المنهكة والمهلكة.
قانون مضاعفة الجهد الإنجازي
أخي سي محمد: الآن وقد توجت بهذا المستوى العلمي الرفيع، ينطبق عليك تماما قانون (فإذا فرغت فانصب)، أي تحرك بكل ما أوتيت من معرفة وخبرة وحكمة وجهد.. نحو الساحات الأكثر فائدة ونفعا لك ولغيرك من الناس في مجتمعك وأمتك والعالم، وأظن أن الساحة السننية هي أجدر هذه الساحات للحركة فيها بعد هذا التتويج العلمي الكبير، فلا تفعل مثل ما يفعل بعض من يصلون إلى هذه التتويجات الكبرى، ثم ينكفئون على أنفسهم، وتنطفئ جذوتهم، وينخرطون في قوافل أكلة القوت والمنتظرين للموت لا قدر الله! واعتبر بهذا الحديث الجليل: (إنْ قامَتِ الساعةُ وفي يدِ أحدِكمْ فَسِيلةٌ، فإنِ استطاعَ أنْ لا تقومَ حتى يَغرِسَها فلْيغرِسْهَا ).

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com