متسلقون بلا جذور…

يكتبه د. محمّد قماري/
أصحاب العقول النابهة يسيرون في الطبيعة، ويتجاوزون مجرد الدهشة والاعجاب إلى أخذ العبر من الشجر والحجر والحيوان، وورد في القرآن الكريم قصة نبي سليمان، عليه السلام، مع الحيوان، فمرة مع طائر الهدهد فقد تفقده النبي الحكيم، ظنا منه أنه خرج في نزهة دون اذنه، فقال: {أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِه} (النمل/22)، وفي ذلك درسٌ له ولنا في التريث في القطع بالأحكام، وربما جاء المفضول بخبر يفوق توقع الفاضل…
وجاءت القصة الثانية من عالم النمل، ولأن القصة تحمل من العبرة والتأمل ما يفيد البشر، فقد جاء اسم السورة من القرآن باسم هذه الحشرات (النمل)، ولعل أعظم عبرة هي هذا التضامن بين أمة النمل، وارسال الانذار ممن شعر بالخطر لبقية أفراد الجماعة: {حَتَّىٰٓ إِذَآ أَتَوْاْ عَلَىٰ وَادِ ٱلنَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّمْلُ ٱدْخُلُواْ مَسَٰكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَٰنُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} (النمل/18).
وما كان من سليمان الذي ألهم فهم خطاب النمل إلا أن يفرج عن (بسمة) تحمل الإعجاب والتعجب من مسلك هذه المخلوقات: {فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِّن قَوْلِهَا}، وانتقال البسمة إلى الضحكة ربما جاء من احتياط النملة في قولها: {وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} لأنها نفت عن سليمان وجنوده قصدية الافساد والقتل غير المبرر!
وفي عالم النبات عبر أخرى، ففيه ما أصله ثابت وفرعه في السماء، ينمو في بطء وتؤدة، وفيه نبات شديد الخضرة غزير الحبك سريع النمو، لكنه عشب ضار وطفيلي، يسر الناضرين ويقضي على المحاصيل النافعة، ومنه الشامخ المتسلق لكن قليل الثبات والرسوخ في الأرض، فهو إلى الزينة أقرب من النفع !
وخلال رحلة قادتني إلى بعض المحاضن الثقافية العريقة بمنطقة توات وأدرار، استحضرت هذه المعاني في فن الغرس الثقافي المتأني، فهناك يدخل طالب العلم، ويترقى في تحصيل المعرفة، وهو في كل مسيره ومساره، لين الجانب رقيق الحاشية، لا تلمس في أخلاقه استعلاء وادعاء، يُقدر أهل الفضل وينزلهم منازلهم، وإذا حضر لا يكاد يتميز وهو إلى الصمت أميل، وإذا سئل أجاب بما يعلم، دون أن يقطع باب العلم أو يحتكره، خوفا من أن يفاجئه (هدهد) يحاجه بقوله: {أحطت بما لم تحط به}…
وأقلب بصري نحو ما يخرج في الجامعات، وانظر في لقب (الدكتور) الذي لا يكاد يقيم جملة على أصولها النحوية بله التركيبيّة، ويظن أنه على يقف على شاطئ المعرفة كلها، وارسل بصري قبل (البروفيسور) فيرجع إليَّ البصر خاسئًا وهو حسير!
اللهم ما كان من أمر ثلة مجتهدة، تجاوزت الألقاب إلى لب العلم والمعرفة، ووجود تلك الثلة لا يكسر من صلابة تلك القاعدة البشعة، ذلك أن التلقي فقد سنة التدرج، وأن العلم لا يمكن حصره في قواعد وحشية عن روح التربيّة والسمت الحسن…
ومن تراثنا نقرأ ما حدث لإمام العربيّة في عصره، فلقد كان أبو عثمان بن جني عالمًا مجتهدا في علوم العربيّة، وإليه انتهى علم الإمام المؤسس الخليل بن أحمد الفراهيدي وتلميذه سيبويه، لكن أبا الفتح بنَ جني في أول شبابه، قعَدَ للإقراء وتعليم الناس النحْوَ في الموصل، ومرَّت الأيام وهو على ذلك، فمرَّ به ذات يوم أبو علي الفارسي، وهو يدرِّس الناس في حلقته، فسأله أبو علي عن مسألةٍ في التصريف، فقَصَر فيها، فقال له أبو علي: «زَبَّبْتَ وأنتَ حِصْرمٌ».
وما كان من الفتى النابه إلى أن انتبه لقصد الشيخ، فترك التدريس، ولازم أبا علي الفارسي أربعين سنةً حتى مَهَر في العربية، وحَذَق فيها عنه، وأتقن الصَّرف، فما أحَدٌ أعْلَم به منه، ولما مات أبو علي الفارسي، تصدَّر بَعْدَه تلميذه أبو الفتح ابن جني في مجلسه ببغداد، وقعد لتعليم الناس، ورحم الله الشافعي حين قال:
أَخِي لَنْ تَنَالَ العِلْمَ إِلاَّ بِسِتَّةٍ *** سَأُنْبِيكَ عَنْ تَفْصِيلِهَا بِبَيَانِ
ذَكِاءٍ وَحِرْصٍ وَاجْتِهَادٍ وَبُلْغَةٍ *** وَصُحْبَةِ أُسْتَاذٍ وَطُولِ زَمَانِ
وكان موقفًا من أستاذ كبير، وهو يصوّب مستقبل تلميذ مجتهد، وربما ما كان لابن جني أن يبلغ ما بلغ لولا ذلك التصويب، تصويب جاء مختصرًا وفي حكمة سارت بها الركبان: «زَبَّبْتَ وأنتَ حِصْرمٌ»…
ولنسأل أنفسنا ونسائل واقعنا عن عدد الذين يتقدمون صفوف المجتمع، ويفتونه في أمور دينه ودنياه، وهم يزعمون بدعاوى عريضة أن ما يقدمونه (زبيب حلو)، فإذا ذقت مرارته علمت خطر الادعاء وأن صاحبنا ما يزال بعدُ (حصرمًا) يحتاج إلى وهج الشمس ترويه بالحرارة والنور…
ألا ما أكثر الحصرم في الإعلام والثقافة والتعليم والفتوى، وما أقل الزبيب!