على هامش التنوير

«التنوير» العربي والحضارة الغربية

أ.د. عبد الملك بومنجل/

 

المستنير حقا –سواء أكان مصدر استنارته الوحي أم العقل أم كليهما- هو من يضع الظاهرة أو القضية تحت أضواء كاشفة تحيطها من جميع الجهات، ويصدر حكمه بعد ذلك وقد أحاط بها معرفةً، وعرف حقيقتها وقيمتها، قدرَ المستطاع.
والظاهرةُ القضيةُ في مقامنا هذا هي الحضارة الغربية: ما حقيقتُها وما طبيعتها وما خصائصها وما قيمتها وما رتبتُها في سلّم الحضارات ومدرج القيم الإنسانية؟ وهل يصحُّ أن تُتخَذَ أنموذجا للرقي الإنساني، ونبراسا في طريق التحضر، ومحَجّا في طلب المعرفة والنهضة والتقدم الحضاري؟
أما قضية المقال فهي موقف «التنوير» العربي من هذه الحضارة: هل أحاط علما بها، جذورا تاريخية، وبنيةً معرفية، وقيمةً إنسانية، وتحوّلا من حال إلى حال، وعلاقةً بالحضارات التي سبقت والشعوب التي سقطت ضحية تخلفها ثم ضحية قهر هذه الحضارة في القارات الثلاث، أم أصابه ما أصاب الكفيف الذي وصف الفيل؟
من المؤسف أن يكون بعض أبناء هذه الحضارة نفسها –وعلى رأسهم روجيه غارودي- قد وصف الحضارة الغربية بما هي أهل له من المادية والرقمية والوحشية والاستهلاكية والاستعلائية، وأنها أقامت بنيانَها على جماجم ملايين الأبرياء المستعبَدين في أفريقيا وأمريكا اللاتينية ثم في آسيا، وراكمت اقتصادها وثرواتِها على أنقاض ما حطّمت من مُقدَّرات تلك الشعوب وما نهبت من خيراتِها، وأنها عَرَضٌ وليست بجوهر؛ إذ جوهر الإنسان والحضارة في الشرق لا الغرب؛ وأن يكون لرموز «التنوير» العربي رأيٌ غير ذلك: رأيٌ يمجِّدُ الأسس التي أقام عليها الغربيون حضارتَهم، والرموز العلمية والفكرية وحتى السياسية التي رسمت لهذه الحضارة ثوابتَها ومتغيراتِها، طريقَها ومنعطفاتِها؛ ويدعو إلى الإقبال غير المتردد على استعارة نماذجها، واستيراد حلولها، والنظر إلى الكون باستعمال مرآتها.. وحتى إذا بدت لهذه الحضارة أمراض وعيوب، فإن الرأيَ ليس التحذير من أخذ هذه الحضارة على علّاتِها؛ بل ما دعا إليه رمز التنوير الأول طه حسين: مسايرة هذه الحضارة خيرِها وشرِّها، حلوِها ومرّها، ما يُحمَد منها وما يعاب؛ أو الالتماس من أوربا أن تتخلص من أمراضها تلك، لكي تبدو أكثر جاذبية وإغراء للعالم كله!
كأنما لا يمكن لهذه الحضارة إلا أن تكون كونيةً، وأن تكون محاكاتها حتميةً، وأن تكون صورتُها إيجابيةً، وأن لا يكون إلى نقدها، وكشف عوراتها، والتحرر من سلطتها، من سبيل!
المستنيرون حقا نظروا إليها من جوانب عدة، فرأوا كيف شابَ الظلامُ بداياتِها ومنعطفاتِها ومآلاتِها، وكيف اختلطت فضائلُها بعِلّاتِها، وكيف كان الإعراضُ عن الله، وإهمالُ عالم الغيب، وسوء الموقف من الدين، أكبرَ زلّاتها، وكيف أنها تستنزف فضائلَها المادية والمعنوية لتُسلِم البشرية إلى الشقاء بويلاتِها؛ وما الحروب التي آلت إليها، وألوان القهر للشعوب الضعيفة والنهب لخيراتها، وكذا مظاهر الخواء الروحي والتفكك الاجتماعي والفساد الأخلاقي التي تزداد بشاعةً وانتشارا، إلا الدليل الصارخ على سوء المنشأ وفساد المآل.
لقد زار أحد هؤلاء المستنيرين حقا أمريكا في مطلع النصف الثاني من القرن الماضي، فعاد يقول:
«لقد شهدتهم هنالك والقلق العصبي يأكل حياتهم على الرغم من كل مظاهر الثراء والنعمة ووسائل الراحة. إن متاعهم هياج عصبي ومرح حيواني، وإنه يخيل إليك أنهم هاربون دائما من أشباح تطاردهم، إنهم آلات تتحرك في جنون وسرعة وهياج لا يقر له قرار. إنه الدوار!!!(…) إنـه الخـواء!!! الخواء على الرغم مما يبدو من زحمة في الحياة وامتلاء».
وزار آخرُ أوربا وأقام فيها مدة، فعاد ينبّه على ما انزلقت إليه من حمأة المادية والرقمية والوحشية وانعدام الأخلاق، وعلى أنها أصبحت عالما من الفوضى «لا يجد فيه الفكر الإسلامي الباحث عن (النظام) نموذجا يحتذيه».
ونبّه كثير من المستنيرين حقا على أن حضارة كان منشؤها من العلم دون الضمير، ومن المادة دون الروح، وكانت مطالبها اللذة دون الفضيلة، والدنيا دون الآخرة، قد تحول الكون لديها سوقا لاجتلاب اللذائذ، ومعتركا لاصطراع المصالح، ومسرحا لانتصار الأقوى واستعباد الضعيف، وأصبحت المركزية الاستعلائية والروح العنصرية فيها هي الوجه الآخر للتفوق العلمي والثورات الصناعية والفكرية والاقتصادية. ولكن «التنويريين» العرب ظلوا على صنم الحضارة الغربية عاكفين، لا يكادون يراجعون موقفهم الأعور من حقيقتها وقيمتها ومنزلتها في سلّم الإنسانية. وعسى أن تعيدهم أحداث الحرب الأخيرة، وما فضحته من عنصرية في التعامل مع موضوع حقوق الإنسان، إلى بعض من الرشد.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com