رأي

مشكلـــة التخلف في العالم العربـــي

خير الدين هني

منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، أخذ العالم يعرف تحولات كبرى، في عالم الأفكار والتقنية وثنائية الخير والشر والصراع الأيديولوجي، حيث انتقل مركز الثقل السياسي والاقتصادي في العلاقات السياسة الدولية، من أوروبا العجوز التي دالت دولتها وأخذت حقها من حركة التاريخ، والنفوذ والهيمنة الاستعمارية على الشعوب الضعيفة التي ضَنَّ عليها التاريخ، وجعلها ترصف تحت قيد العبودية والرق السياسي، وذلّ التخلف والفقر والجوع والحرمان، انتقل هذا الثقل إلى الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي، فشكلا نظامين متناقضين ومتعاديين ومتنافرين، فلسفيا وأيديولوجيا وعقديا واقتصاديا واجتماعيا، أحدهما حافظ على القيم الغربية الأوروبية التي سيطرت عليها الفلسفة اللبرالية، التي منحت الفرد الحرية المطلقة في التفكير والعقيدة والسلوك والممارسة، وتحررت مما تسميه القيود الدينية والأخلاقية والسلطة القهرية التي تمارسها الدولة والمجتمع والتقاليد الاجتماعية، وقد أطلقت على نفسها العالم الحر الذي لا يخضع فيه الفرد إلى سلطة المجتمع، بل المجتمع هو الذي يخضع لحرية الفرد ورغباته وميوله واتجاهاته.
وأما الثانية فقد بنت فلسفتها على القيم المادية الدياليكتية المبنية على تطور حركة التاريخ، وهي الأيديولوجيا المستغرقة في الجدلية التاريخية، وقد نهض بها من يسمون أنفسهم أنصار الطبقة الكادحة من البروليتارية التي سحقها الاستغلال الفاحش للإقطاعيين الاستغلاليين، المصاصين لدماء الضعفاء من الفقراء المعدمين، حسبما كانوا يروجون لهذا التوصيف في محافلهم السياسية، ولذلك بنوا أوهامهم على ما يسمونه رد الاعتبار إلى الطبقة الشغيلة ممن سحقتهم الإمبريالية العالمية، ولكي يتحقق لهم المراد جعلوا الدولة تحتكر السلطة والاقتصاد ورؤوس الأموال والحركة التجارية، وتوجيه المجتمع نحو الأهداف التي تتبناها فلسفة الدولة العقائدية.
كان الصراع محتدِما بين الأيديولوجيتين، وقد اشتد التنافس بينهما على الفوز بالسبق العلمي والفني والتكنولوجي، وعلى هذا نشأت الحركة التجسسية عندهما وتطور فنّ عملها، لسرقة أسرار التكنولوجيا من المخابر العلمية، وقد عرفت الأيديولوجيتان تطورا كبيرا في التقنية والتكنولوجيا العسكرية والمدنية والفضائية، بالسرقات العلمية التي أتاحها التجسس الاستخباراتي، والفرق بينهما أن الأيديولوجيا الأولى، بنت سياستها على الحرية الفردية والسياسية والاقتصادية وحركة رؤوس الأموال، وعلى المنافسة الحرة وصناعة الجودة والإتقان، فانتصرت انتصارا كبيرا وكتب لها البقاء، لأنها تتماشى مع غرائز الإنسان في حب التملك والتكسب والثراء.
أما الثانية فقد اندحرت على أيدي روادها، حينما أخفقوا في تحقيق أوهام الشيوعية الطوباوية التي تتعارض مع ميول الإنسان ورغباته، وهذا ما جعل المفكر الأمريكي فوكو ياما يبني فرضه المغلوط، حينما انتهى في تأليفه إلى انتهاء التاريخ، لصالح القيم الأمريكية السامية، التي يقصد بها تفوق اللبرالية واقتصاد السوق على الشيوعية، ولكنه تراجع عن حكمه حين رأى تفوق الأيديولوجية المزدوجة، بين الشيوعية الفلسفية والسياسية في احتكار الحكم عند الصينيين، وبين اللبرالية في الحركات الاقتصادية والمالية والتجارية، التي هي على نمط ما في الغرب من حرية مطلقة في قواعد المنافسة.
وحين سقطت الأيديولوجية الشيوعية عند السوفييت، تبعها سقوط حر في المعسكرات الشيوعية والاشتراكية في العالم، وأخذ العالم يتجه نحو تبني سياسة التحديث السياسي والاقتصادي والتنمية الشاملة، وجعل يعمل بجد ونشاط وحيوية، ويضاعف من الجهد لتحقيق نسب عالية من نسب التنمية، وقد حقق طفرة نوعية في أقل من ثلاثة عقود، وأصبح الكثير من الدول الفقيرة وذات النسب العالية من السكان، تصنف في خانة الدول الناهضة أو الناشئة وبعضها ممن كانوا غارقين، في نرجسية الشيوعية والاشتراكية وذلّ الفقر والجوع: كالهند، والبرازيل، والصين، وإندونيسيا، والمكسيك، والأرجنتين، يضاف إليها جنوب أفريقيا، وتركيا، أصبحوا اليوم ضمن مجموعة العشرين الأكثر غناء في العالم، وقد توصلوا إلى ذلك بإيمانهم العميق، من أن تحديث العمل السياسي، هو أصل تحرير الإنسان من هواجس الخوف والكبت والقهر والإحباط، والجمود والركود والخمول، وإذا تحرر الإنسان من قهر سلطة الدولة وطغيانها، تفجرت مواهبه بأفكار الخلق والإبداع والابتكار، وحقق المعجزات العلمية والصناعية والتكنولوجية، على نحو ما هو واقع في كوريا الجنوبية الفقيرة بالأمس القريب، والتايوان وتركيا وجنوب إفريقيا والأرجنتين والبرازيل، وغيرها من الدول الناشئة،
والإنسان العربي هو الإنسان الوحيد على وجه البسيطة، إذ مازال يعيش في عالم التحولات الكبرى، حالة الجمود والركود والنكوص، وعالة على غيره في طعامه ولباسه ودوائه وسلاحه، ولم يستطع تحقيق أي قيمة لها بعد نهضوي أو تنموي، لأنه غائب أو مغيّب عن عالم الأفكار، والتقنية المبدعة في حقول المعرفة والتكنولوجيا، ورغم أن فلسفات الحداثة السياسية والصناعية نقلت إلى بلده، إلا أنه عجز عن تحويلها إلى وظائف سلوكية، لها قيم نفعية في واقعه البائس، ولم يقدر على ابتكار أفكار جديدة في التحديث السياسي والصناعي المبدع، لأن خموله وجموده وركوده، حال بين قدراته الإبداعية بالطبيعة مثل بقية الشعوب، وبين تطوير أساليب تفكيره وأنماط سلوكه.
وإذا لم يعد النظر في التحديث السياسي المغشوش، ويبنى على قواعد الشورى والشفافية وسيادة القانون، فسيبقى الإنسان العربي في عزلة قاتلة، وسيعاني من ديمومة أزمته الفكرية والإبداعية، لأن الحرية والعدالة والمساواة، هي العناصر التي تحرر الإنسان من عقاله ومن خوفه وقنوطه وتحجّره، على نحو ما وقع لأخيه المسلم في البلدان الإسلامية التي تحررت من كوابيس الخوف والقهر السياسي، فأبدعت في شق الذرة أو بالتحكم في التقنية الصناعية في شقيها العسكري والمدني، وليس ذلك ببعيد لو أرادت النخبة السياسية والثقافية أن تستعيدا رشدهما، لأن الرشد السياسي والثقافي هما الأصل، في تطوير أي قيمة لها بعد أخلاقي أو نهضوي أو تقني أو حضاري، ولكن من يعلق الجرس؟

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com