معادلة الحرية والنهضة الحضارية في مسارات الشعوب والأمم

أ. د. الطيب برغوث/
النهضة الحضارية أمل كل المجتمعات
النهضة الحضارية هي القطب الذي تتحرك نحوه حياة المجتمعات الإنسانية في عالم الشهادة باستمرار، لارتباط مصالحها الدنيوية والأخروية بتحقيقها، ولذلك فهي قانون أساس من قوانين الحياة الكبرى، من وعاه من الأفراد والمجتمعات، وأدرك مقاصده، وأخذ بمعطياته ومقتضياته وشروطه، يكون قد أمسك بسر عظيم من أسرار القوة والنجاح في الحياة، ومن جهله أو غفل عنه، يكون قد ضاع منه رأس خيط حياته، وتاه في دوامات الضعف والتخلف والغثائية والتبعية والمهانة الحضارية.
فالنهضة الحضارية التي توفر لكل فرد في المجتمع ضروريات وحاجيات ومحسنات حياته، وتحميها وتنميها باستمرار، وتحمي منجزات المجتمع وتنميها دوما، وتواجه بها التحديات التي تحيط به، وتمكنه من تحقيق إشعاعه الحضاري في محيطه وفي العالم، وتضع ذلك كله في خدمة الحياة الأخروية لكل فرد فيه، هي هدف وطموح كل مجتمع وكل فرد فيه.
هذا ما يجب أن يستيقن منه كل فرد وكل دولة وكل مجتمع، وأن يوطن عليه نفسه، ويؤسس عليه كل نظم حياته، ويربي عليه أجياله، إذا أراد أن يكون إنسانا مكرما حقا، ويبني دولة ومجتمعا إنسانيين حقيقيين، يشرفانه ويشرفان أمته والإنسانية عامة، وخاصة إذا كان هذا الإنسان، وكانت هذه الدولة، وكان هذا المجتمع مسلما.
القيمة الفطرية المركزية للحرية في الحياة
ومن أروع ما قرأته عن الحرية ومكانتها وقيمتها في حياة الإنسان، قول العلامة عبد الحميد بن باديس: “حق كل إنسان في الحرية كحقه في الحياة، ومقدار ما عنده من حياة هو مقدار ما عنده من حرية، المتعدي عليه في شيء من حريته كالمتعدي عليه في شيء من حياته، وكما جعل الله للحياة أسبابها وآفاتها جعل للحرية أسبابها وآفاتها، ومن سنة الله الماضية أنه لا ينعم بواحدة منهما إلا من تمسك بما لها من أسباب وتجنب وقاوم ما لها من آفات”(الآثار).
مفهوم الحرية وأولويتها في الحياة
والحرية التي نقصدها هنا، تعني أن يمتلك الإنسان إمكانية أو حق التفكير فيما يشاء، والتعبير عما يراه، وفعل ما يراه مفيدا له وللمجتمع بدون قيود، بل في ضوء المنطق السنني للحياة عامة، الذي جاءت الشرائع داعية إليه وحامية له، تتجاوز الحرية دائرة أو سقف الحق في ذلك كله، إلى دائرة المندوب والواجب، حيث يندب له أو يجب عليه أن يفعل ذلك كله، ويتحمل مسئوليته عن ذلك كله أمام الله وضميره والمجتمع، لأن فعل ذلك كله هو الذي ينمي شخصيته، ويمكنه من استكمال إنسانيته أولا، وأداء واجبه في المجتمع والحياة ثانيا، وتحصيل حقوقه منهما ثالثا، فإذا لم يفعل ذلك كله، فاته ذلك كله أو جله، واختلت حياته وحياة المجتمع الذي يعيش فيه، ولذلك لا يحق لأية قوة أو سلطة سياسية أو اجتماعية أو ثقافية، كائنة من كانت، أن تحرمه من ذلك، أو تفرض عليه الوصاية، كما يؤكد لنا ذلك موقف الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه من عمر بن العاص واليه على مصر، حينما أراد أن يصادر أو يقلص من حرية مواطن قبطي غير مسلم، انحيازا لابنه، فحاسبه حسابا عسيرا، واقتص من ابنه وقال له كلمته الشهيرة: “متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا”! التي لخص وجسد بها رسالة الإسلام في الأرض.
خطورة ضيق هامش الحرية وانحسارها
في نظم المجتمع وثقافته
والمجتمعات التي يضيق فيها سقف الحرية، وتنحسر فيها ثقافة الحرية، وتقل أو تتناقض فيها النظم الثقافية والتربوية والاجتماعية والسياسية المؤسسة للحرية والحامية لها، لا يمكنها أن تحقق نهضتها الحضارية، وإذا تحقق لها شيئ منها، فإنها لا تستطيع حمايته والمحافظة عليه، وتوزيع منافعه على جميع أفراد المجتمع، وعلى كل المجالات الحيوية فيه.
وفي إبراز بعض مخاطر ضعف أو انحسار هامش الحرية في نظم المجتمع وثقافته، واتساع نطاق الكبت والاستبداد فيه، يقول ابن خلدون هو يتحدث عن عواقب التربية والمعاملة العنفية للإنسان صغيرا كان أم كبيرا: “ومن كان مرباه بالعسف والقهر من المتعلّمين أو المماليك أو الخدم سطا به القهر وضيّق عن النّفس في انبساطها وذهب بنشاطها ودعاه إلى الكسل وحمل على الكذب والخبث وهو التّظاهر بغير ما في ضميره خوفا من انبساط الأيدي بالقهر عليه وعلّمه المكر والخديعة لذلك وصارت له هذه عادة وخلقا وفسدت معاني الإنسانيّة الّتي له من حيث الاجتماع والتّمدّن، وهي الحميّة والمدافعة عن نفسه ومنزله. وصار عيالا على غيره في ذلك بل وكسلت النّفس عن اكتساب الفضائل والخلق الجميل فانقبضت عن غايتها ومدى إنسانيّتها فارتكس وعاد في أسفل السّافلين. وهكذا وقع لكلّ أمّة حصلت في قبضة القهر ونال منها العسف واعتبره في كلّ من يُملك أمره عليه. ولا تكون الملكة الكافلة له رفيقة به. وتجد ذلك فيهم استقراء” (المقدمة).
دروس الهبات الوطنية الكبرى
في ضوء معادلة النهضة والحرية
ومن الدروس المهمة التي استخلصتها من هباتنا الوطنية الكبرى، التي جاءت كلها في سياق الأمل في تحرير الإنسان والمجتمع، وإطلاق طاقاتهما في اتجاه تحقيق النهضة الحضارية المنشودة للمجتمع الجزائري، أنها لم تستثمر كثيرا في مجال الحرية التي تؤمن الإنسان من الخوف والكبت والقهر النفسي والاجتماعي، والإرهاب الفكري، وازدواجية السلوك، والتحفظ والتوجس المرضي من الغير، وانحسار ثقته في جل ما هو رسمي أو سياسي، واستصحابه لفكرة البوليتيك المترسخة في الثقافة الاجتماعية، التي تجعله يشك في جل ما له صلة بأصحاب البوليتيك ومن يدور في فلكهم، ويدرجه في قائمة أو طابور “المَشْمَشَة”، ويتعامل معه على هذا الأساس، من التحفظ والشك وعدم الثقة!
وهذا دون شك هدر لقيمة جزء من المكاسب الفكرية والمعنوية والاجتماعية الكبيرة لهذه الهبات الوطنية الكبيرة، التي كان المجتمع ينتظر منها الكثير على صعيد تكريس حرية مواطنيه وتقديسها وحمايتها، وإطلاق طاقاتهم الفكرية والنفسية والروحية والاجتماعية الهائلة، واستثمارها في تحقيق نهضته الحضارية المنشودة التي طال انتظارها.
هذا ما كان يجب على الفرد والدولة والمجتمع وكل مؤسسة فيهما، أن يفعلوه تجاه مكاسب هذه الهبات الوطنية الكبرى، ولكن واقع المجتمع وأوضاعه بعد ما يقرب من ستة عقود من الزمن، تؤكد بأننا جميعا، لم نستفد كثيرا من هذه الفرص الاستثنائية الكبيرة في حياتنا المعاصرة، وأهدرنا الكثير منها، وأنه يجب علينا أفرادا ومؤسسات ومجتمعا، أن نقف مع أنفسنا وقفات صريحة جادة، بعيدا عن لغة الخشب التي أكل عليها الدهر وشرب، بل التي أكلت حقوق الأجيال وشربتها، وأن نبحث عن النواقص والاختلالات، وأن نعترف بها، وأن نقومها بلا هوادة، وأن نفسح المجال واسعا أمام تكريس الحرية المنظومة، التي ستساعدنا كثيرا في تصحيح أخطائنا، وتصفية التركات المتوارثة التي تثقل كواهلنا، وتبطئ حركتنا، وتمكننا من ضبط مسارات حياتنا، وتجديد مناهج عملنا، وتدارك ما فاتنا.
خلاصة الكلام
والخلاصة هي أنه يجب علينا أن نعمق الوعي بكون النهضة الحضارية في ضوء منطق السنن، مشروطة بسقف الحرية المنظومة، الذي يوفره المجتمع لأفراده ومؤسساته. فهي أي النهضة الحضارية، تتحقق وتزداد خيريتها وبركتها ورحمتها العامة، بقدر اتساع سقف الحرية ورسوخها في ثقافة المجتمع ونظمه الفكرية والثقافية والتربوية والاجتماعية والسياسية، وما عدا ذلك فهو وهم وهدر للوقت والجهد والإمكانات والفرص، ومراكمة للمديونية الحضارية المنهكة للمجتمع، التي ترهق كاهل الأجيال، وترهن مستقبلها ومستقبل المجتمع، وإنها لمأساة أن لا يفي جيلنا لطموحات الأجيال السابقة وتضحياتها من أجله، ويرهن مستقبل الأجيال القادمة، ويقابل الله والتاريخ بهذه التركة، فليشفق كل واحد منا على نفسه وتاريخه ومصيره، وليصحح وضعه مع ربه ونفسه ومجتمعه، وليعمل صالحا فيما يستقبله من عمره الباقي.