
إعداد: عبد القادر قلاتي/
لم يعد للتكهن دور بعد أن أصبح منطق الحرب هو السيّد، فالقراءات المتعجلة في استبعاده، أثبتت أنّ التحليل لا يكفي لاستظهار النتائج، وتقديرها، فما تستبطنه السياسات الدولية المقتدرة وتخطط له، ليس دائما محلّ قراءة وتحليل، ومع هذا فإنّ أكثر المقاربات التحليلية ملامسة للنتائح؛ تلك التحليلات التي ترى أن ما يحدث في أوكرانيا، ليس إلاّ حلقة من حلقات التحولات الدولية التي يفرضها الصراع الدولي، انطلاقا من أحقية قيادة العالم ولغة التحكم التي يفرضها الكبار دائما، عند الانتصار السياسي أو الاقتصادي أو التكنولوجي.
اليوم أصبح أمر الحرب أمرا واقعا، فروسيا قطعت -كما يقال- قول كل خطيب، وجعلت من القوة الأمر الواقع، دون أن تحسب أي حساب للقارة العجوز، وحليفتها الولايات المتحدة الأمريكية التي إلى لحظة كتابة هذا التقرير، مازالت تتحدث عن الخيار السياسي، كحل استراتيجي يخدم روسيا كما يخدم أوروبا… للفهم أكثر نبدأ القصة من البداية، لنستظهر تصورا سليماً للقضية التي ربما تكون نقطة التحول الكبرى في الصراع الدولي…
البدايـة: الاستقـلال الكامــل والتقارب الأوروبي
شكَّلت أوكرانيا -الواقعة في شرق القارة الأوروبية – محور تجاذب بين الغرب وروسيا منذ استقلالها في عام 1991، ومنذ ذلك التاريخ وروسيا تشعر بالاستياء من تقارب الجمهورية السوفياتية السابقة مع أوروبا في السنوات الأخيرة.
في الأول من ديسمبر 1991، صوّتت أوكرانيا التي كانت جمهورية تابعة لما يعرف بالاتحاد السوفياتي حينذاك في استفتاء على استقلالها الذي اعترف به الرئيس الروسي بوريس يلتسين.
وفي الثامن من ديسمبر، وقعت روسيا وأوكرانيا وبيلاروسيا اتفاقية تأسيس «رابطة الدول المستقلة»، لكن أوكرانيا سعت بعد ذلك للتخلص من الوصاية السياسية لجارتها الكبرى، المستمرة منذ 300 عام.
ونتيجة لذلك لم تلتزم الدولة التزاما كاملا بـ «رابطة الدول المستقلة» التي تعدّ بنية تهيمن عليها روسيا في محاولة لإعادة الجمهوريات السوفياتية السابقة إلى فلكها.
وبعد سنوات قليلة من انتهاء الحرب الباردة، تعهدت روسيا وبريطانيا والولايات المتحدة، بموجب اتفاقية وقعت في بودابست في الخامس من ديسمبر 1994، باحترام استقلال أوكرانيا وسيادتها وحدودها مقابل تخلي كييف عن أسلحتها الذرية الموروثة من الاتحاد السوفياتي.
في 31 ماي عام 1997، وقعت روسيا وأوكرانيا معاهدة صداقة وتعاون من دون إزالة الغموض الذي يلف علاقات كييف مع حلف شمال الأطلسي (ناتو)، في حين تعارض موسكو بشدة انضمام أوكرانيا أو أي جمهورية سوفياتية سابقة أخرى إلى الحلف.
وتنظم المعاهدة والنصوص الملحقة بها خصوصا مسألة الخلاف الشائك بشأن تقاسم الأسطول السوفياتي السابق في البحر الأسود، الذي يرسو في سيباستوبول في شبه جزيرة القرم. واحتفظت روسيا بملكية أغلب السفن لكنها تدفع لأوكرانيا رسما متواضعا لقاء استخدام مرفأ سيباستوبول.
وفي الوقت نفسه، احتفظت روسيا التي كانت أهم شريك تجاري لكييف بـ «سلاحها الاقتصادي» في مواجهة أوكرانيا التي تعتمد اعتمادا كبيرا على النفط والغاز الروسيين.
وفي 2003، وقعت كييف اتفاقية لإنشاء منطقة اقتصادية مشتركة مع روسيا وبيلاروسيا وكازاخستان، مما دفع الاتحاد الأوروبي إلى تحذيرها من أن ذلك يمكن أن يعيق تقاربها مع التكتل وانضمامها إلى منظمة التجارة العالمية.
في 2004، أثارت الانتخابات الرئاسية في أوكرانيا، التي شابتها عمليات تزوير وأفضت إلى فوز المرشح المدعوم علنا من روسيا فكتور يانوكوفيتش، احتجاجات غير مسبوقة، وألغي الاقتراع.
وشكل انتصار زعيم «الثورة البرتقالية» في 26 ديسمبر المعارض الموالي للغرب فكتور يوتشنكو -الذي تعرض لحالة تسمم غامضة بالديوكسين خلال الحملة- بداية حقبة سياسية جديدة في أوكرانيا بعد 10 سنوات من حكم الرئيس ليونيد كوتشما الذي كان يراوح بين أوروبا وموسكو.
وفور وصوله إلى السلطة، كرر الرئيس الأوكراني الجديد رغبة أوكرانيا في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي على الرغم من اعتراضات المفوضية والحلف الأطلسي.
في 2008، في قمة بوخارست اتفق قادة دول الناتو على أن أوكرانيا ستنضم إلى الحلف في نهاية المطاف، فأثار ذلك غضب روسيا.
وخاض البلدان عددا من الحروب السياسية التجارية، كان أهمها حربي الغاز في 2006 و2009 اللتين عطلتا إمدادات الطاقة في أوروبا وأدّتا إلى تقويض العلاقات الأوكرانية الروسية.
في 2010 انتخب الرئيس الجديد فيكتور يانوكوفيتش الذي أطلق عملية تقارب مع روسيا مع التأكيد أن التكامل مع الاتحاد الأوروبي الذي تعدّ كييف معه «اتفاقية شراكة» منذ 2008، يبقى أولوية، ولكن في نوفمبر 2013 رفض الرئيس الأوكراني في اللحظة الأخيرة وتحت ضغط الكرملين توقيع الاتفاق مع الاتحاد الأوروبي وأعاد إطلاق العلاقات الاقتصادية مع موسكو.
وأدى هذا التبدل إلى إطلاق حركة احتجاجية مؤيدة لأوروبا كان مركزها الساحة المركزية في كييف «الميدان».
وانتهت تلك الانتفاضة في فيفري 2014 برحيل يانوكوفيتش إلى روسيا، ثمّ إقالته بعد قمع دموي للمحتجين أدى إلى سقوط مئات القتلى من المتظاهرين و20 في صفوف الشرطة.
في أوج هذه الأزمة وفي شبه جزيرة القرم سيطرت القوات الخاصة الروسية على مواقع إستراتيجية.
في مارس 2014، ضمّت موسكو شبه الجزيرة لتتسبب بأسوأ أزمة دبلوماسية بين الغرب وروسيا منذ سقوط الاتحاد السوفياتي.
التصعيـــد الأخيـــر بيــن الغــرب وروسيــــا
اتهم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الغرب بتسليم أسلحة إلى كييف وإجراء مناورات عسكرية «استفزازية» في البحر الأسود وقرب الحدود.
في 28 نوفمبر 2021 أكدت أوكرانيا أن روسيا حشدت نحو 92 ألف جندي على حدودها. في المقابل اتهمت السلطات الروسية أوكرانيا بحشد قواتها في شرق البلاد.
في 7 ديسمبر هدد الرئيس الأميركي جو بايدن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بـ«عقوبات اقتصادية شديدة» في حال غزو أوكرانيا، وذلك خلال قمة افتراضية ثنائية.
كشفت موسكو عن مسودتي معاهدتين تنصان على حظر أي توسع لحلف شمال الأطلسي «ناتو» (NATO) ولا سيما ضم أوكرانيا، فضلا عن انسحاب قوات الحلف الأطلسي من دول الاتحاد السوفياتي السابق.
في 18 جانفي 2022 وبعد محادثات غير مثمرة في جنيف ثمّ في بروكسل نشرت موسكو قوات في بيلاروسيا.
خصصت واشنطن 200 مليون دولار إضافية كمساعدات أمنية لأوكرانيا، وسمحت لدول البلطيق بتسليم كييف أسلحة أميركية.
في 24 جانفي أعلن الحلف الأطلسي إرسال سفن وطائرات مقاتلة لتعزيز دفاعاته في أوروبا الشرقية، ووضعت واشنطن ما يصل إلى 8500 جندي في حالة تأهب. واتهم الكرملين واشنطن بالتسبب في «تفاقم التوتر»، وبعد فترة وجيزة أجرى مناورات جديدة قرب أوكرانيا وفي شبه جزيرة القرم، وفي 26 جانفي رفضت الولايات المتحدة مطالب موسكو الأساسية.
في 2 فيفري أرسلت واشنطن 3 آلاف جندي إضافي إلى أوروبا الشرقية للدفاع عن الدول الأعضاء في الناتو.
في 7 فيفري قال فلاديمير بوتين إنه مستعد «لتسويات» بعد لقاء طويل في الكرملين مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي تتولى بلاده الرئاسة الدورية للاتحاد الأوروبي.
من جهة أخرى حذّر المستشار الألماني أولاف شولتز من أن العقوبات الغربية ستكون «فورية» في حال غزت روسيا أوكرانيا، وفي 14 فيفري قررت الولايات المتحدة نقل سفارتها من كييف إلى مدينة لفيف في غرب البلاد،.كما دعا رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى التراجع عن «شفير الهاوية»، معتبرا أن الوضع «خطر جدا».
في 15 فيفري أكد الكرملين بدء «انسحاب جزئي» للقوات الروسية المتمركزة قرب الحدود الأوكرانية، بينما أعلن الحلف الأطلسي يوم 16 من نفس الشهر؛ أنّه لا يرى أي مؤشر لخفض التوتر، مؤكدا على غرار واشنطن أن موسكو تعمد على العكس إلى تعزيز وجودها العسكري، فيما نشرت موسكو 150 ألف جندي على حدود أوكرانيا وفق أجهزة الاستخبارات الأميركية. في المقابل، أعلنت موسكو عملية انسحاب عسكري،. وفي 19يوم فيفري عرض الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي عقد لقاء مع بوتين الذي كان في هذه الأثناء يشرف على تدريبات «إستراتيجية» تتضمن إطلاق صواريخ فرط صوتية.
في21 فيفري أعلن قصر الإليزيه أن الرئيسين الروسي والأميركي وافقا مبدئيا على عرضه عقد قمة، لكن الكرملين اعتبر مثل هذا الاجتماع «سابقا لأوانه».
اعتبر بوتين أن عملية السلام في النزاع في أوكرانيا لا فرص لديها، فيما أعلن.اعترافه باستقلال منطقتي دونيتسك ولوغانسك الانفصاليتين في شرق أوكرانيا، وذلك في خطاب عبر التلفزيون الرسمي رغم تحذيرات الغرب بأن ذلك سيعرض روسيا لعقوبات شديدة، في وقت أصدر بوتين مرسومين أمر بموجبهما وزارة الدفاع بأن تتولى القوات المسلحة الروسية مهمة حفظ السلام على أراضي الجمهوريتين الشعبيتين دونيتسك ولوغانسك.
ما دور بريطانيا والصين في هذا الصراع؟
نشرت بريطانيا 2000 قاذفة صواريخ مضادة للدبابات و30 من قوات النخبة للمساعدة في تدريب القوات المسلحة الأوكرانية في مواجهة غزو روسي جديد محتمل.
وشوهدت طائرة نقل تابعة لسلاح الجو الملكي البريطاني من طراز C – 17 وهي تحلّق ذهاباً وإياباً بين المملكة المتحدة وأوكرانيا، وفقاً لبرنامج تتبع الرحلات الجوية.
وتمد المملكة المتحدة أوكرانيا بأسلحة تتمثل في أنظمة مضادة للدبابات للمساعدة في تدريب القوات المسلحة الأوكرانية في مواجهة أي غزو روسي محتمل، حيث شوهدت طائرة نقل تابعة لسلاح الجو الملكي البريطاني من طراز «بوينغ سي – 17 غلوب ماستر 3»، وهي تحلق ذهاباً وإياباً بين المملكة المتحدة وأوكرانيا منذ يوم الاثنين، وفقاً لبرنامج تتبع الرحلات الجوية.
يتم نشر الأسلحة والأفراد كجزء من برنامج «أوروبيتال» وهو البرنامج التدريبي الخاص بالجيش الأوكراني من المملكة المتحدة الذي تم وضعه منذ عام 2015 بعد ضم شبه جزيرة القرم.
وشدّد وزير الدفاع البريطاني «بن والاس» على أنّ الوجود العسكري البريطاني في أوكرانيا مخصّص فقط «للدفاع عن النّفس»، وأضاف: «إنَّها ليست أسلحة استراتيجية ولا تشكل أيّ تهديد لروسيا. وستستخدم في الدفاع عن النّفس وسيعود أفراد المملكة المتحدة الذين يقدمون التدريب في مرحلة مبكرة إلى المملكة المتحدة بعد إتمام البرنامج».
وقالت وزيرة الخارجية البريطانية ليز تروس، خلال زيارتها لأستراليا، «إن الغزو لن يؤدي إلّا إلى مستنقع رهيب وخسائر في الأرواح، كما نعلم من الحرب السوفياتية الأفغانية والصراع في الشيشان. نحن سنواصل مع حلفائنا الوقوف إلى جانب أوكرانيا ونحثّ روسيا على وقف التصعيد والانخراط في مناقشات هادفة. ما يحدث في أوروبا الشرقية مهم للعالم».
موقـــع الصيـــن فــي الأزمنـــــة
يخضع موقف الصين في هذه الأزمة لتدقيق شديد بشكل خاص بعد تعهد الرئيس شي جينبينغ، مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين، بأنه لن تكون هناك «مجالات تعاون محظورة» في علاقتهما الثنائية، وفقاً لتقرير لصحيفة «الغارديان».
ناقش المحللون الصينيون خيارات بكين. وبينما يدافع المتشددون عن سياسة خارجية موالية لروسيا، يعتقد آخرون أنه على بكين استغلال هذه الأزمة لحماية العلاقات مع واشنطن. وقال وانغ هوياو، رئيس مركز الصين والعولمة، وهو مركز أبحاث مقره بكين يقدم المشورة للحكومة: «تريد الصين في النهاية علاقات جيدة مع الولايات المتحدة».
وأوضح وانغ: «بكين وموسكو تعهدتا بتوثيق التعاون، لأن كلا البلدين لديه مخاوف مماثلة بشأن التدخل الخارجي في قضايا الأمن الخاصة بهما، وترى الصين بعض أوجه الشبه في توسع حلف شمال الأطلسي (الناتو) شرقاً مع مخاوفها المتعلقة ببحر الصين الجنوبي». ومع ذلك، لا تدعم واشنطن وحلفاؤها مطالبات بكين بالكثير من بحر الصين الجنوبي.
وقال الدكتور يو جي، زميل أبحاث بارز حول الصين بمركز الأبحاث «تشاتام هاوس» بلندن، إنّ الأزمة تسلط الضوء على «نقطة شائكة» في علاقة بكين بموسكو في أعقاب استثمار شي الكبير فيها. تأمل الصين كثيراً في أن تقدم روسيا دعماً دبلوماسيا كاملاً لمبادرات بكين العالمية المختلفة في ظل عدد كبير من البرامج التي تقودها الأمم المتحدة، لكن تحرك موسكو الحالي جعل رغبات الصين أكثر إشكالية.
أشار يو أيضاً إلى أن بعض الاستراتيجيين في بكين ينظرون الآن بشكل إيجابي إلى هذا الوضع لأنّ إدارة بايدن مشتتة، ونتيجة لذلك من المحتمل أن تكون لديها طاقة وموارد أقل لمواجهة نفوذ الصين المتنامي في المحيطين الهندي والهادئ -على الأقل قبل انتخابات منتصف الولاية الرئاسية في الولايات المتحدة في نوفمبر من هذا العام.
الموقف الصيني من الأزمة واضح، فبكين لا تؤيد التدخل العسكري في أوكرانيا،. وهذا ما حاول وانغ يي، كبير الدبلوماسيين الصينيين، توضيحه، وقال وانغ في مؤتمر ميونيخ الأمني: «يجب احترام وحماية سيادة أي دولة واستقلالها ووحدة أراضيها… أوكرانيا ليست استثناء».
ظاهرياً، يتناسب رد بكين مع التقاليد الدبلوماسية التي طالما دافعت عنها دولياً، وكرّر شي «عدم الاعتداء المتبادل وعدم التدخل في الشؤون الداخلية».
ومع ذلك، يسلط المحللون الضوء على إصرار وانغ على احترام «المخاوف الأمنية المشروعة لجميع البلدان»، ويقولون ذلك مؤشر واضح على تعاطف بكين مع وجهة نظر موسكو بشأن نفوذ الناتو باتجاه الشرق.
كما يشير المنتقدون أيضاً إلى موقف الصين من روسيا في عام 2014 عندما ضمت موسكو شبه جزيرة القرم. قبل بضعة أشهر من خطاب شي في يونيو من ذلك العام، امتنعت الصين عن التصويت في الجمعية العامة للأمم المتحدة على قرار لا يشجع الإجراءات الروسية.
من وجهة نظر الصين، فإن الأزمة في أوكرانيا ليست واضحة المعالم. بينما يُظهر شي وبوتين علاقة أخوية، تتمتع بكين أيضاً بعلاقات ودية مع كييف، وتوفر أوكرانيا فرصة تجارية لمبادرة الحزام والطريق الاقتصادية الطموحة التي أطلقها شي. بلغت تجارة أوكرانيا مع الصين في عام 2020، 15.42 مليار دولار (11.37 مليار جنيه إسترليني). الصين هي الشريك التجاري الأول لأوكرانيا.
وكانت السفارة الصينية في كييف قد طلبت من مواطنيها والشركات الامتناع عن السفر إلى «المناطق التي لا يزال الوضع فيها غير مستقر». كما نصحت السفارة المواطنين الصينيين المقيمين في أوكرانيا بتخزين الضروريات اليومية مثل الطعام ومياه الشرب.
وأصدرت السفارة الأوكرانية في بكين، بياناً باللغة الصينية على موقع التواصل الاجتماعي «ويبو» الذي يخضع لرقابة شديدة، أدانت فيه التصرف الروسي واتهمت موسكو بـ«الانتهاك الخطير للمبادئ الأساسية للقانون الدولي».
ويري رايان هاس، كبير المستشارين السابقين للرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، فرصة لواشنطن لـ«التدخل في خيارات بكين» خلال هذه الأزمة. وكتب على «تويتر»: «هذا لا يعني تنازلات أو نهجاً مخففاً لجمهورية الصين الشعبية… بل إنه يتطلب من بكين رؤية مسار يظل مفتوحاً لعلاقات أقل عدائية مع الغرب، ومخاطر كبيرة لربطها بتهور روسيا».
وأضاف: «لن يكون الهدف السعي لإجبار بكين على الانفصال عن موسكو. هذا لا يحدث. سيكون لمساعدة بكين على التوصل إلى حكمها الخاص بأن مصالحها تتطلب منها أن تبدأ إعادة توجيه تدريجية وثابتة في أعقاب الغزو الروسي لأوكرانيا».
القدرات العسكرية (الأوكرانية الروسية) وخطورة الحرب شاملة
يعتقد البعض أنه أن لا جدوى من المقارنة بين القدرات العسكرية لكل من روسيا وأوكرانيا. فالأخيرة أقل شأنا بكثير، من حيث حجم الجيش ونوعية الأسلحة والميزانية. يقول الأوكرانيون إن لديهم أسلحة متطورة؛ ودعما من الغرب، ويستطيعون وضع حد لأطماع روسيا.
بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، تمكنت روسيا من استعادة إمكانياتها العسكرية التي تراجعت إلى حد كبير في التسعينيات، وحدثت قواتها الجوية والبحرية والبرية، ما سمح لها بسد الفجوة مع منافسيها الأميركيين، والقدرة على إنتاج جميع أنواع الأسلحة. بالمقابل، ورثت أوكرانيا عن الاتحاد السوفياتي جُلّ قدراتها العسكرية، مع كثير من الفوارق بين قوة البلدين حاليا.
وقد ورث الجيش الروسي مجمّعا صناعيا عسكريا ضخما من الاتحاد السوفياتي. وتستثمر الدولة أموالا طائلة في التصنيع العسكري والتطوير التقني لمخزون الأسلحة الهائل الذي تمتلكه.
ودخلت روسيا ضمن أكبر 5 دول في مجال الإنفاق العسكري بنهاية عام 2019. ووفق تقرير «معهد ستوكهولم لأبحاث السلام» (SIPRI) -الذي صدر في أفريل 2020- تحتل روسيا المرتبة الثالثة في قائمة الدول الأكثر إنفاقا على التسليح بميزانية سنوية بلغت نحو 64 مليار دولار.
كما تحتل روسيا المرتبة الثانية عالميا في حجم تصدير الأسلحة إلى الخارج، وبلغت مبيعاتها في العام الحالي 13.7 مليار دولار، وفقا لبيانات شركة «روس أبورون إكسبورت»، المسؤولة عن صادرات الأسلحة الروسية. وفي عام 2021، بلغ عدد أفراد الجيش الروسي نحو 900 ألف.
تضمّ القوات النووية الإستراتيجية الروسية 517 مركبة إيصال إستراتيجي لنشر الأسلحة النووية، وصواريخ باليستية عابرة للقارات وغواصات وقاذفات ثقيلة مزودة بـ1420 رأسا نوويا.
ووفق تقرير للمعهد الدولي للأبحاث الإستراتيجية في لندن عام 2021، تمتلك روسيا 12 غواصة نووية تحمل صواريخ إستراتيجية، و7 غواصات محملة بصواريخ كروز، و10 غواصات ذرية متعددة الاستخدامات، و21 غواصة تعمل على طوربيدات الديزل، وحاملة طائرات، و4 طرادات، و15 فرقاطة، و125 سفينة للدوريات وخفر السواحل، و11 مدمرة، و48 سفينة إنزال، بعدد أفراد يبلغ تعدادهم 150 ألفا.
وفقا لدراسة لموقع «ميليتاري بالانس»، يبلغ عدد أفراد القوات الجوية الروسية حوالي 170 ألفا، وتشغل هذه أكثر من 3600 وحدة من المعدات العسكرية، بالإضافة إلى 833 وحدة تخزين، وفق معطيات العام 2019.
ويفيد تصنيف موقع «غلوبال فاير باور» الأميركي عام 2021 بأن سلاح الجو الروسي يملك نحو 4500 طائرة، بينها 789 مقاتلة، و742 طائرة هجومية، و429 طائرة للشحن العسكري، و520 طائرة تدريب، و130 طائرة مهام خاصة، و1540 مروحية، من بينها 538 مروحية هجومية.
ووفق الموقع نفسه، تضم القوات البرية الروسية 13 ألف دبابة، ونحو 27 ألف مدرعة، و6540 مدفعا ذاتي الحركة، و4465 مدفعا ميدانيا، و3860 راجمة صواريخ، و450 كاسحة ألغام، ويبلغ تعداد أفرادها 350 ألفا.
أما بالنسبة لأوكرانيا، فنجد أنّها ورثت عن الاتحاد السوفياتي معظم قواعدها وقواتها الحالية، مع الكثير من الفوارق التي تميزها عن روسيا.
وكان قوام الجيش الأوكراني يبلغ نحو 455 ألف جندي في عام الاستقلال 1991، ثم تراجع شيئا فشيئا إلى نحو 120 ألفا عام 2013.
ولعلَّ أكثر المنعطفات التاريخية التي أثرت على أوضاع القوات الأوكرانية وأهميتها، كان توقيع وثيقة بودابست (05 ديسمبر 1994)، حيث تخلت بموجبها كييف عن كامل سلاحها النووي، والذي كان يشكل ثلث الإرث السوفياتي من هذا السلاح، ويضعها في المرتبة الثالثة عالميا من حيث قوته.
وتمّ ذلك مقابل ضمانات أمنية منحتها الدول الموقعة، وهي روسيا والولايات المتحدة وبريطانيا وأوكرانيا، حيث تعهدت بموجبها بالحفاظ على وحدة وسلامة الأراضي الأوكرانية.
لكن أحداث العام 2014 التي تصفها كييف بـ “العدوان الروسي” على القرم وإقليم دونباس، أعادت الاهتمام بالقوات الأوكرانية ودعمها، فزادت ميزانيتها المخصصة لهذا الغرض لتبلغ نحو 6% من ميزانية 2021، بنحو 9.4 مليارات دولار، ولم تتجاوز هذه الميزانية 1% قبل 2014.
وزادت أوكرانيا قواتها إلى نحو 204 آلاف جندي، أكثر من نصفهم متعاقدون، مع 46 ألف موظف عسكري إداري، بالإضافة إلى قوات داعمة أخرى، كحرس الحدود (نحو 53 ألفا)، والحرس الوطني (60 ألفا).
بهذه الأعداد، وبحسب وزارة الدفاع الأوكرانية، تحتل قواتها المرتبة الثالثة في أوروبا، بعد القوات الروسية والفرنسية.
وكإشارة إلى تاريخ توقيع «وثيقة بودابست» السلبي عليها، تحتفل القوات الأوكرانية بيومها الوطني في السادس من ديسمبر من كل عام، كجهاز دفاعي عاد عمليا إلى الوجود.
وتتألف القوات الأوكرانية من 6 فروع، هي القوات البرية والبحرية والجوية، وكذلك قوات الهجوم (المحمولة جوا)، والقوات الخاصة، التي لا تعرف أعدادها. واستحدثت أوكرانيا في 2016 «القوات الموحدة»، التي تشارك فيها عدة وحدات عسكرية وأمنية، لقتال المسلحين الروس والانفصاليين في شرق البلاد.
وتتبع كل هذه الفروع للقيادة العامة لهيئة الأركان، ويتولى الرئيس فولوديمير زيلينسكي منصب القائد الأعلى للقوات المسلحة.
ووفق المعهد الدولي للدراسات الإستراتيجية في لندن، يبلغ تعداد قوات أوكرانيا البرية نحو 145 ألف جندي، وبهذا تكون أكبر فروع الجيش الأوكراني.
ويذكر موقع «غلوبال فاير باور» المتخصص بالشؤون العسكرية أن لدى هذه القوات 11.435 مركبة مدرعة، و2430 دبابة، و2815 مدفعا، و550 راجمة صواريخ.
أما قوات أوكرانيا الجوية فيبلغ تعدادها نحو 45 ألفا، ولديها 285 طائرة، منها 42 مقاتلة، و111 طائرة مروحية متعددة الأغراض، و34 طائرة مروحية هجومية.
ويعتبر البحر من أبرز نقاط ضعف أوكرانيا العسكرية، وأكبر الفروقات التي تميز روسيا عنها، فقواتها البحرية تضم 25 قطعة بحرية، منها فرقاطة واحدة فقط، والباقية عبارة عن سفن مراقبة واستطلاع.
ولسد هذه الفجوة في ميزان القوة بينها وبين روسيا، تعتمد أوكرانيا على مساعدات الغرب العسكرية، ولا سيما مساعدات الولايات المتحدة، التي خصصت لأوكرانيا أكثر من 4 مليارات دولار منذ 2014.
وتوجه كييف جزءا كبيرا من ميزانية الدفاع وخططه لشراء سفن من فرنسا وبريطانيا، ولإجراء مناورات في البحر الأسود.
يعتبر المحلل العسكري ديمتري بولتينكوف أن لا جدوى من المقارنة بين القدرات العسكرية لكل من روسيا وأوكرانيا. فالأخيرة أقل شأنا بكثير، من حيث حجم الجيش ونوعية الأسلحة والميزانية.
ورغم الجهود التي بُذلت في السنوات السبع الماضية، والدعم الذي تلقته أوكرانيا من الغرب، يقول المحلل، لا مجال عسكري واحد تمكنت القوات الأوكرانية فيه من مجاراة روسيا.
ويضرب المحلل مثلا؛ بينما تم تجديد أسطول البحر الأسود الروسي بالفرقاطات والطرادات والغواصات الحديثة، لم يتلق الأسطول الأوكراني سوى قوارب مدرعة خفيفة، وقوارب دوريات أميركية، تم إيقاف تشغيلها.
ويشير إلى أنه في عهد الرئيس الأوكراني الحالي تراجعت وتيرة إعادة تسليح القوات الأوكرانية، كما تراجع شراء الأسلحة الحديثة باهظة الثمن، بسبب النقص في الميزانية.
ويخلص بولتينكوف إلى أن «الجيش الأوكراني يستطيع الدخول في مواجهة مع «جمهوريتي لوغانسك ودونيتسك»، لكنه لا يشكل تهديدا، لا لشبه جزيرة القرم، ولا لبقية أنحاء روسيا.
وعلى الجانب الآخر، يرى فيكتور موجينكو -وهو خبير عسكري وعضو هيئة الأركان العامة في القوات الأوكرانية- أن «أوكرانيا ليست بهذا الضعف الذي يروج له الروس، أو قد تعكسه فوارق الأرقام».
ويقول «جيش أوكرانيا يحتل المرتبة الـ25 على مستوى العالم، والمرتبة الـ10 في أوروبا، بمعنى أن قوات روسيا لن تمر بسهولة أمامه إذا قررت الحرب، ولن تستطيع التعامل معه كتنظيم أو مليشيا».
ويضيف أن «العوامل تغيرت، والأعداد ليست كل شيء. لدينا أسلحة متطورة؛ والشركاء الغربيون مصرون على دعم أوكرانيا، ووضع حد لأطماع وعدوانية روسيا».