من تراثنا

الصحافة: صوت الأمم وترجمان الشعور العام

أد. مولود عويمر

 

يجد القارئ في هذه السلسلة نصوصا قديمة متجددة حررها العلماء والأدباء الجزائريون حول قضايا عصرهم واهتماماتهم العلمية والأدبية والفكرية والسياسية الوطنية والعالمية. وحوت هذه النصوص المرجعية للفكر الجزائري المعاصر معينا غزيرا يغرف منه الباحثون المشتغلون على تاريخ الجزائر في القرن العشرين والدارسون لذخائر تراثنا. وألتزم هنا قدر الامكان بنشر الآثار المغمورة أو المتداولة بشكل محدود لننفض الغبار عنها ونحيي جهود أصحابها الذين لم ينصفهم دائما الباحثون لأسباب مختلفة. وأمهد في كل مرة بترجمة موجزة لصاحب النص، وبيان سياقه العام وعرض مختصر لمضمونه، وتعريف مقتضب للمصدر الذي اقتبست منه، وهي في غالب الأحيان عبارة عن جرائد ومجلات قديمة تعتبر في حد ذاتها وثائق مغمورة أو نادرة.

 

من هو الشيخ أبو يعلى الزواوي؟
صاحب هذا النص هو الشيخ السعيد بن محمد الشريف بن العربي المعروف الشيخ أبو يعلى الزواوي. ولد في قرية تعاروسث بمنطقة أزفون سنة 1866. وتعلم القرآن الكريم ودرس اللغة العربية والعلوم الشرعية في زاوية تفريت ناث الحاج وزاوية عبد الرحمان اليلولي بمنطقة عزازقة. كما تعلّم اللغة الفرنسية التي وظّفها في خدمة دينه والدفاع عن قيمه السمحاء.
سافر الشيخ أبو يعلى إلى تونس في عام 1893 بذريعة مواصلة دراسته في جامع الزيتونة، ثم رحل إلى المشرق العربي حيث عاش 10 سنوات متنقلا بين دمشق والقاهرة، واتصل خلالها بالعلماء الجزائريين المهاجرين أمثال الشيخ طاهر الجزائري والشيخ محمد الخضر حسين والشيخ الرزقي الشرفاوي، كما تعرّف على العديد من الأعلام العرب والمسلمين أمثال: الشيخ محمد رشيد رضا والأستاذ محب الدين الخطيب والأمير شكيب أرسلان، وغيرهم.
وبعد عودته إلى الجزائر في سنة 1924، عمل الشيخ أبو يعلى الزواوي إماما في مسجد سيدي رمضان في القصبة بأعالي مدينة الجزائر. وساهم في تأسيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في سنة 1931، وأصبح أحد أبرز أعضائها ومفتيها الأول ومحرّرا في جرائدها المختلفة. نشر مقالات كثيرة في الصحف الجزائرية والمشرقية، وأصدر مجموعة من الكتب أذكر منها: «الإسلام الصحيح»، «تاريخ الزواوة»، «الخطب المنبرية»، و«جماعة المسلمين». وهكذا واصل نشاطه الفكري والإصلاحي إلى أن التحق بالرفيق الأعلى في يوم 8 رمضان 1371 هـ/ الموافق لـ 1 جوان 1952 بالقصبة.
جريدة الصديق في سطور
نشر النص في جريدة «الصديق»، العدد 51 الصادر في 27 فبراير 1922. وهو الحلقة الثالثة من مقال طويل بعنوان: ما هي الجرائد؟ وما هي وظائفها؟ وقد اخترت الحلقة الأخيرة فقط لعدة اعتبارات منها ضيق المساحة المخصصة لهذه السلسلة، وهي صفحة واحدة، وكذلك استرسال الكاتب في الحلقتين السابقتين، بينما الحلقة الأخيرة جاءت مركزة واستوفت غرض الموضوع المطروح للدرس والنظر. أما العنوان فقد اقتبسته من النص حيث أورد الشيخ الزواوي عدة تعريفات للجرائد، فاخترت هذا التعريف الذي أراه الأنسب لمضمون النص وموضوعه.
أما «الصديق» فهي جريدة إصلاحية صدرت للمرة الأولى يوم 12 أوت 1920. وكان مديرها المالي: محمد بن بكير، ومدير تحريرها: الصحافي اللامع عمر بن قدور ثم خلفه الشيخ المولود الزريبي ابتداءً من العدد 7 الصادر في 15 أكتوبر 1920م. وقد بدأت الجريدة بأربع صفحات ثم أصبحت تصدر في صفحتين.
واهتمت هذه الجريدة بالقضايا الاجتماعية والاقتصادية والثقافية الوطنية دون أن تهمل القضايا العالمية الكبرى في عشرينيات القرن الماضي. وساهم في تحريرها إضافة إلى عمر بن قدور والمولود الزريبي اللذين تداولا على رئاسة تحريرها عدد من الكُتّاب والعلماء المعروفين آنذاك أمثال: المفتي المولود بن الموهوب، الشاعر الحسن بوالحبال، الشيخ عبد العالي الأخضري، الشيخ أحمد بن العابد العقبي، والشيخ إبراهيم أبو اليقظان..الخ.
لم تعمر الجريدة إلا عاما ونصف العام ثابرت خلالها على أداء رسالتها بجد وإخلاص، وقاومت كل المعوّقات الادارية والمشكلات المالية إلى أن توقفت نهائيا مع صدور العدد 54 بتاريخ 22 مارس 1922.


لماذ نحن في حاجة إلى الصحافة؟
«إننا معشر الجزائريين خصوصا والمغاربة عموما نحتاج إلى جرائد للتنبيه إلى الإصلاح العام الذي يعوِزنا في جميع حرکات وسکناتنا ماديا وأدبيا وبالأخص ما يتعلق بالتربية والتعلیم المعدومين عندنا بالمرة. وأول الإصلاحات العناية باللغة العربية لسان الدین، لسان الرسول، لسان کتاب الله، لسان الأمة، لسان السُّنة، لسان الإسلام، لسان الأدب، لسان العرب، ثم نأخذ في إثبات ما يلزم اثباته ونفي ما يلزم نفيه خصوصا ما لم ينزل الله به من سلطان، وكذلك التنبيه إلى الأخلاق الفاسدة والملكات المعوّجة في الناس، وسوء التفاهم السائد بينهم، إلى غير ذلك مما يلزم تناوله على طريقة التخلية والتحلية.
ويلزم لهذا رجال عظام، ولكن من الأسف أن غالب الرجال العظام عندنا أميون جهلاء منتفخون فقط، وعنايتهم بكثرة البرانيس والسراويل وتثقيل الرأس بالقلانيس والعمائم، ويضاف إلى ذلك اعتماداتهم على الجدود والآباء والبيوت، فهم متعاظمون في ذلك بالعظام الناخرة، وأرباب الأدب والقلم والفهم مع قلتهم كما أشرنا فلا صوت لهم في قومهم يجاب ولا دعاء يسمع، فمثلهم كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاءً ونداءً، صم بكم عمي فهم لا يعقلون.
مقدمة ابن خلدون مرجعية لحملة الأقلام:
هذا وأشير على طلبة العلم وحملة الأقلام الكُتّاب ومريدي السياسة بدراسة مقدمة ابن خلدون مائدة السّواس والعارفين ومرضاة الوزراء والسلاطين التي وقع الاجماع على استحسانها من جميع الأمم الحاضرة، وهي مترجمة إلى جميع الألسن العصرية، وأعجب العمرانيون والاجتماعيون بها، فكيف لا يعجب بها الأديب العربي لذلك الإنشاء العذب المرسل، ولا ينبغي لمريد الحقائق السياسية والعمرانية أن يغفل عنها إذ سطَّر فيها رحمه الله من لوازم العمران (..) والملك والعصبيّة وأحوال الأمم والأجيال وطبائعها ما به کفاية لذوي الألباب.
آفة الجرائد
آفة الجرائد هي آفة اللسان، وآفة اللسان هي الخوض في الباطل والمِراء، والجدل فضول الكلام وقول الزور وهذا من أكبر الكبائر وقد ردّده صلى الله عليه وسلم ثلاثا من حديث في صحيح مسلم، والخصومة والغيبة والنّميمة والفُحش والسّباب والبذاءة واللّعن.
وكذلك من آفة الجرائد الخيانة والغش والخديعة والظلم والجور والاعتداء والرشوة والتسلّط على أعراض الناس ونهشها كذمّ من لا يستحق الذّم ومدح من لا يستحق المدح إلى غير ذلك ممَّا لا يحصی فيحد ولا يستقرأ فيعدّ.
وهذه العيوب كلها تقع تبعتها على عاتقي المدير والمحرِّر وهي صفاتهما أو رضاؤهما كما تقدمت الإشارة أن الكلام صفة المتكلِّم. والحال أنّ المنصب عظيم والنّفع أو الضر عميم ولا يليق أن يتولاه إلا العلماء العارفون المنوّرون والكُتّاب الفصحاء والبلغاء الماهرون المحيطون والملمون بالأحوال الماضية، والجارية من الذين سبروا غور الأمس واليوم، فتكون الجرائد عند ذلك من الرواة الثقات ومن الصحف المعتبرات ويكون لها أجر من أرشد إلى التعليم وأهدى إلى الصراط المستقيم.
أمّا والحالة هذه ممّن رأيناهم يتولون هذا المنصب العظيم ويرتقي ذلك المنبر الكريم وهم عديمو الأهلية بالكلية كما قدمنا فذلك من زيادة محنة الأمّة، وعظم مصيبتها ومن أشراط الساعة كما في الحديث: «إذا تولّى الأمر غير أهله فانتظروا الساعة». وما أحسن قول بعض الشعراء في الجهّال من الشعراء وهو:
لعن الله صنعة الشعر ماذا  من صنوف الجهال منه لقينا
يؤثرون الغريب منه على ما  كان سهلا للسامعين مبینا
ويرون المحال معنی صحیحا  وخسيس الكلام شيئا ثمينا
يجهلون الصواب منه ولا يد  رون للجهل أنهم يجهلونا
وهذا ينطبق تمام الانطباق على أرباب الجرائد، ذلك بأنهم كما قلنا مثل الشعراء.
مصالح الجرائد ومنافعها
مصالح الجرائد من المصالح العامة المرسلة ومنافعها العميمة تفيد العموم والخصوص وتبصرهم وتنبههم وترشدهم وتخبرهم كل يوم إذا كانت يومية، وتريح السياسي والمؤرخ والكاتب والتاجر والفلاح والمقيم والمسافر وأرباب المصالح المتنوعة والولاة والمتصرفين وحتى الأخبار من ذوي الإعتبار، وتفيد القراء من جميع الطبقات، وتكسبهم المعرفة والاطلاع على أحوال الأمم والأجناس والدول العظام، وما يجري بينها من الوفاق والخلاف إلى غير ذلك من المصالح العامة والخاصة، وتخدم الجميع في آن واحد في كل يوم. وهي –الجرائد- من المحدثات ذات العبر ودواوين المبتدأ والخبر.
كان من قبلنا إذا حدث شيء من الأمور النافعة أو الضارة مما أشرنا إليه هنا يستلزم مدة طويلة للإطلاع عليه وتمحيصه، ونحن الآن نرى وزيرا أو عالما مؤلفا أو سیاسيا خطيبا فلا يكاد ينتهي من خطابه أو تأليفه حتى نراه منشورا في الجرائد. وساعد الجرائد غرائب أخرى: كتابة الاستینوغراف (اختزال الكتابة) والتلغرافات العمومية والخصوصية.
وهذه الأمور من أبدع ما يكون وأنفعه. ولقد بهرني ما اطلعت عليه ذات يوم من جريدة من الجرائد المصرية من مقالة لكاتب في موضوع المطبوعات العصرية وعجائبها فقال أنه حضر بالنمسا إذ قطعت شجرة وقذف بها في معمل من معامل الورق فخرجت جرائد مكتوبة في بضع ساعات أو دقائق.
الجرائد والحكومات
لما للجرائد من الامتياز في صنعتها ووظيفتها فهي في مأزق ومضيق أضيق من الدردنيل. وقد تكون أشغل من ذات النحيين، وتتحيّر في أمرها هل تنحاز إلى الحكومة أو إلى الأمة أو إلى حزب أو جنس أو طائفة أو مذهب أو تبقى مستقلة تدور مع الحق حيث دار إذا وقع الخلاف بين من ذكر كلهم، وهناك يظهر حسن الشكوك ولا يقدر عليه إلا العارفون الماهرون في السياسة وأحكامها، والسياسة كما يقولون لا قلب لها. وأصحاب الجرائد عند هذه المواقف في خطر عظيم كما في الحديث الشريف: «والمخلصون على خطر عظیم».
والله يدعو إلى دار السلام، ويهدي مَن يشاء إلى صراط مستقیم».-

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com