الحـــق الـمر

المتعففون الكبار…

يكتبه د. محمّد قماري/

تناقلت وسائل الإعلام خبر الرسالة التي توجهت بها المناضلة جميلة بو باشا إلى الرأي العام، وعبرت فيها عن عدم رغبتها في الانضمام إلى أعضاء مجلس الأمة، والرسالة تأولها الناس كلٌ حسب ما يتمنى أو ما يتطلع إليه، ففي مثل هذه السياقات يغلب (التحليل بالتمني) على التحليل الموضوعي، وقد تقاطعت كل تلك القراءات في جميل الثناء على المجاهدة الايقونة…
واسم (جميلة) ظل حاضرا في المخيلة الشعبية في الجزائر، وتعداها إلى المخيلة الأدبية والنضاليّة في الأقطار العربيّة والأجنبيّة طيلة سنوات الاستقلال الأولى، فلقد سمعت من أمي، رحمة الله عليها، وأنا صغير هي تردد ازجالاً، تذكر اسم جميلة:
يحيا الرياس، ويحيا الناس في الأحباس  إن شاء الله لا باس، وتحيا بلادك يا جميلة
وكنت أظن أنها جميلة واحدة حتى ذاك اليوم الذي اطلعت فيه على كتاب الدكتور عثمان سعدي (الثورة الجزائرية في الشعر العراقي)، وهو توثيق قام به الدكتور عثمان يوم كان سفير الجزائر في العراق، إذ تنبهت من خلال الكتاب إلى أن (جميلة) ليست اسما دالا على مجاهدة واحدة، فقد ذكر المؤلف جميلة بوحيرد وجميلة بو باشا وجميلة بوعزة…
وقصة نضال الناس في الجزائر من أجل الاستقلال طويلة، وترسخت سنوات (أم الثورات) ثورة التحرير الكبرى، وهو نضال يجعل هراء بعض (المتحررات الجدد) مثيرا للشفقة والسخرية، إذ يرددن قضايا لم تطرح بتاتا في الواقع الجزائري الذي عرف لالة فاطمة نسومر ونساء مقاومة الأمير عبد القادر ومقاومة المقراني في السابقين، وعرف نضال الشابة حسيبة بن بوعلي ومليكة قايد والجميلات وغيرهن يربو عن العد والحصر…
ولم يعرف تاريخنا المعاصر المرأة المضطهدة إلا في مخيلة بعض المرضى، إذا ما رصدنا القضية في شقها القانوني أو التبريري، فلم نر المجتمع يرضى أو يبارك عزل المرأة أو اضطهادها اللهم إلا ما كان من أمر الحالات الفردية أو الملابسات الخاصة، أو ما كان رافدًا لدعاوى تغريب المرأة الجزائرية، وسلخها من مقومات شخصيتها التي جعلتها أما للمجاهدين ومجاهدة كلما اقتضت الظروف ذلك…
إن الاجماع على الثناء الذي صاحب نشر رسالة المجاهدة (الجميلة) بو باشا، إنما جاء ليحيَّ ما استقر في وجدان أمتنا من أمر التعفف في طلب المقابل عن القيام بالواجب، وجاء تكريمًا لروح مناضلة لم تخب فيها جذوة التاريخ، فهي تشدد في رسالتها على أن في الأمة الجزائرية شبابا من الإطارات الكفأة، وإن حرموا من شرف خدمة بلادهم أيام محنة الاستعمار، فيجب ألا يحرموا شرف خدمته في البناء وتحصين مناعته من استعمار جديد متربص…
وهي معان قرأناها في رسالة الشهيد أحمد زهانة الأخيرة، وإليها أشارت رسالة الشهيدة الشابة حسيبة بن بوعلي، وتلك المعاني يجب أن لا تنطفئ جذوتها على حد تعبير الشهيد مراد ديدوش وهو يذكرنا بوجوب الحفاظ على الذاكرة (إذا ما نحن متنا فأحفظوا ذاكرانا)، وكأني بالسيدة جميلة وهي تخط رسالتها تذكر بيت عنترة الشهير:
يخبرك من شهد الوقيعة أنني *** أغشى الوغى وأعف عند المغنمِ
فأرى مغانـــــم لو أشاء حويتـــــها *** فيعيدني عنها الحيـــــــا وتكرّمي
يا سيدة جميلة، لقد شهدنا بعضا من خبر الوقيعة من خلال من كتب عن اصرارك وكبريائك، كنت فتاة وحيدة معزولة بين يدي جلادين غلاظ شداد، أعمى الحقد بصيرتهم، واشتهوا مص دمك كما تفعل تلك الكائنات البشعة في أفلام الخيال السينمائية، لكن قصتك ما شابها خيال ولا حيل سينما، إنها لحظات وساعات وأيام وشهور، مرت عليك وعلى عائلتك، دفعتي فيها من أعصابك ولحمك ودمك ضريبة أن تعيش الجزائر والجزائريون في كرامة على أرضهم…
وكأني أرى أمك، رحمة الله عليها، وهي تتدبر أمر أجرة المحامية (جيزيل حليمي)، وتحاول إنقاذ فلذة كبدها من بين فكي كماشة رهيبة تنهش لحمها، ومن أين لها بمئة ألف فرنك في ذلك الزمن، لكنه قلب الأم وعواطف الأم، ذلك الاصرار هو الذي حرك ريشة بيكاسو، وهو الذي أجرى قلم سيمون دو بوفوار ليكتب ما كتب على صفحات يومية (لوموند)، وجعل عجلات المطبعة تدور لتقذف بكتاب (جميلة بو باشا) للقراء، وقد كتبه سيمون دي بوفار وجيزيل حليمي…
تلك العفة أمام بريق المغانم، وذلك الاصرار على مواصلة خط النضال، وإن كان بالصمت، فالتاريخ لا يكذب، والمجد المزيف أشبه بتلك القذارة التي يغطيها الثلج، فإذا زال الثلج ظهرت مقززة قبيحة، أما الأعمال الكبرى والنضالات الراقية فإنها تظهر وإن طمست ولو بعد حين:
واخدعْ الأحْيَاءَ مَا شِئتَ فلَنْ *** تجِدَ التَارِيخ في المُنخَدعِينْ

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com