تعلمت الكلاب فتأدبت وتعلمنا فما ملكنا أدبا

أ. لخضر لقدي/
كتب المؤرخ والإخباري الخراساني ابن المرزبان أبو بكر المحولي كتابا عنوانه «فضل الكلاب على كثير ممن لبس الثياب» تحدث فيه عن فساد أهل زمانه، وخسَّة أخلاقهم ولُؤم طباعهم، وجمعَ فيه ما جاء في فضلِ الكلبِ على شِرار الناس.
والكتاب ليس مُزْحَة طاح بها لسان، وليس عنوانا جاء قدحا في الإنسان، فقد ورد في القرآن التشبيه بالكلب والحمار والعنكبوت.
والإنسان حينما لا يأخذ بهداية السماء يصبح سلوكه منسلخا ولباسه متسخا وتصرفه عدوانيا تدميريا ويكون تابعا لشهواته عابدا لملذاته، وينتهي ضالا سواء وعظته أم لم تعظه.
وحظ من لم ينتفع من دراسته وتعليمه بأدب ونظام لا يختلف عن حال المثل القرآني:{ كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} لا يدري ما فيها، ولا يناله من حملها إلا التعب، فالمسألة ليست كتبا تحمل وتدرس، وإنما مسألة فقه وعمل بما في الكتب.
ونحن قد بنينا دولا وشيدنا مؤسسات وأنشأنا مدارس وجامعات، وكانت غايتنا أن نبني الإنسان ونرتاح في الأوطان ونقهر كل عدوان، ولكننا اكتشفنا بعد زمن الأماني وسماع الأغاني أننا في دول ضعيفة مهزوزة السيادة، لا قدرة لها على رعاية الإنسان، ولا تصمد أمام أدنى عدوان، خدعنا فآمنا بأننا أرقام كبيرة لا يمكن أن تمحى واستفقنا على خبر فرار خيرة الشباب من البلاد، بل وكفر كثير منهم بالوطن وفضل رمي نفسه في البحر على البقاء في هذا الواقع التعيس الذي أفرزته نخب العهر.
إن طريق التقدم واضح لا لبس فيه وبيّن لا اعوجاج فيه، وهو أن نمزج بين الأصالة والمعاصرة، وأن نبني الإنسان فهي الخطوة الأولى في طريق التطور ومحاربة التخلف.
ومن القيم الراسخة في ديننا: الطاعة والانصياع والإذعان والنظام والانضباط وضبط النفس والسلوك والالتزام بالأنظمة والمعايير الدينية والأخلاقية والاجتماعية المتفق عليها.
وقد كتب فقيه الأدباء وأديب الفقهاء علي الطنطاوي رحمه الله مقالا بعنوان: (خجلت من رجال لم يتعلموا الانتظام الذي تعلمته الكلاب).
جاء فيه: حدثني رجل كبير القدر صادق اللهجة قال: كنت في لندن، فرأيت صفا طويلا من الناس يمشي الواحد منهم على عقب الآخر ممتدا من وسط الشارع إلى آخره، فسألت فقالوا: إن هنا مركز توزيع وأن الناس يمشون إليه صفا كلما جاء واحد أخذ آخر الصف فلا يكون تزاحم ولا تدافع، ولا يتقدم أحد دوره ولو كان الوزير ولو كان أمامه الكناس وتلك عادتهم في كل مكان على مدخل الكنيسة وعلى السينما وأمام بائع الجرائد وعند ركوب الترام أو صعود القطار.
قال: ونظرت فرأيت في الصف كلبا في فمه سلة وهو يمشي مع الناس كلما خطا خطوة لا يحاول أن يتعدى دوره أو يسبق من أمامه ولا يسعى من وراءه ليسبقه ولا يجد غضاضة أن يمشي وراء كلب مادام قد سبقه الكلب.
فقلت ما هذا؟ قالوا كلب يرسله صاحبه بهذه السلة وفيها الثمن والبطاقة فيأتيه بنصيبه من الإعاشة.
لما سمعت هذه القصة خجلت من نفسي أن يكون الكلب قد دخل النظام وتعلم آداب المجتمع، ونحن لا نزال نبصر أناسا في أكمل هيئه وأفخم زي تراهم فتحسبهم من الأكابر يزاحمونك ليصعدوا الترام قبلك بعدما وضعت رجلك على درجته…
أو يمدون أيديهم من فوق رأسك إلى شباك البريد وأنت جئت قبلهم وأنت صاحب الدور دونهم…أو يقفزون ليدخلوا قبلك على الطبيب وأنت تنظر متألما لساعتين…وهم إنما وثبوا من الباب إلى المحراب.