شؤون تربوية

فلسفة الحداثة… جولة فكرية حول البواكير والمنطلقات

محمد المهدي براهيمي*/

 

الحداثة هو مصطلح يعبر عن المرحلة التي تصف الحركة الفكرية والسائد الثقافي الذي تشكل بعد تراكمات منذ القرن الخامس عشر 15م إلى غاية النصف الثاني من القرن العشرين، أي بداية باختراع آلة الطباعة وازدهارها مع يوهان غوتنبرغ الألماني (مخترع الآلة الطابعة المتحركة) 1450 م، ومرورا بالثورة الفرنسية وفترة الاكتشافات العلمية إلى غاية عصر النهضة في القرن 16م، وانتهاء بالثورة الصناعية وعصر الحداثة والتنوير في القرنين 17 و 18 الميلاديين، حيث ازدهرت الآداب والعلوم والفنون وتمخض عن ذلك ولادة مشروع ثقافي يتجاوز القديم ويؤسس للجديد، بالتزامن مع التطور العلمي والتكنولوجي الذي طبع عالم الغرب عموما وأوروبا بشكل خاص، هذا ما يهمنا معرفته ورصد تاريخ أفكاره في هذا المقال.

اعتمد المشروع الحداثي على فكرة تجديد كل ما هو قديم بناءً على العقلانية والتفكير العقلاني الذي ظهر مع كتابات المفكر والفيلسوف رينيه ديكارت كطرح مناهض للنموذج الثقافي القديم الذي اعتبروه قائما على الخرافات والأساطير كالشعوذة والسحر وأضافوا إليهما الدين، سعيا لاستبدال هذا النموذج بنموذج حديث عملية التفكير فيه قائمة على السبب والسببية في إعادة بناء للحياة حيث یكون الإنسان محور العملیة الإبداعیة، إنه میلاد نزعة إنسانیة وظهور مركزیة للذات الإنسانیة وفاعلیتها، لقد أزيحت مركزية الإله – كما كتب الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه – واستبدلت بمركزية الذات الإنسانية وعقلانیتها وهو إعلان عن فلسفة الوعي، وفلسفة الذات التي تكون المقولة الأساسیة فیها هي مقولة العقل.
يعتمد الفكر الحداثي بالأساس على عقلانية الإنسان ويركز في الوقت ذاته على مصلحته الذاتية، تتضح فكرة المصلحة الذاتية مع الفلسفة البراجماتية النفعية التي ظهرت على يد الفيلسوف الإيطالي ميكيافيلي في كتابه (الأمير) الشهير والذي نظـّر فيه لعلم السياسة انطلاقا من ثنائية المصلحة المادية وقوة السلطة حيث اعتبرهما القِوى المحركة للتاريخ.
إضافة إلى العقلانية مع ديكارت والبراجماتية مع ميكيافيلي امتاز المشروع الثقافي للحداثة بالإعلاء من قيمة الحرية والتحرر فانتشرت كتابات واسعة حول قيمة الحرية الإنسانية وضرورة بناء الأنظمة السياسية وفقا للتعاقد بين الشعب والحكومة وتحديد مساحات الحقوق والواجبات كما يظهر في كتاب (العقد الاجتماعي) للمفكر والفيلسوف الفرنسي جون جاك روسو حجر الزاوية في الفكر السياسي والاجتماعي الحديث، وفي أعمال توماس هوبز كذلك الفيلسوف البريطاني الشهير بطروحاته في السياسة والقانون والحقوق، لقد مهّد التفكير والكتابة في تحرير الإنسان من قبضة الأنظمة الاستبدادية والحكم الملكي لظهور فكرة الديمقراطية والحكم المدني.
لم تقتصر دعوات التحرر على المجال السياسي فقط بل شملت مجال التفكير أيضا فظهر الحديث والنقاش حول أصل المعرفة الإنسانية وطبيعتها وكثر البحث فيها عند الكثير من مفكري وفلاسفة التنوير والحداثة برز منهم اثنان إنجليزيان الأول هو جون لوك الذي اشتهر بالكتابة الدقيقة عن الإدراك البشري وطبيعة المعرفة الإنسانية، والثاني فرانسيس بيكون بفلسفته الجديدة المرتكزة على الملاحظة والتجريب والتشكيك في المنطق الأرسطي باعتباره قائما على القياس، إنه الأساس الفلسفي لبناء المنهج التجريبي الحديث وبأعمالهما اكتسب المشروع الثقافي للحداثة سمة جديدة مرتبطة بالعلوم، وهي الثقة في المنهج التجريبي فقط القائم على الحس والتجربة وتعريف العلم والحقيقة العلمية تبعا لذلك.
لقد أعقبت التغييرات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي جاءت إبّان عصر النهضة والثورة الصناعية تحولات كبرى أثّرت على مسار الفكر الإنساني حيث ساهمت في تقديم رؤية جديدة عن الحياة والكون والإنسان وأنماط بناء المجتمع وتنظيمه، من بين الكتابات التي اعتنت بقضايا الاقتصاد والسياسة ودراسة الإدارة العامة في مؤسسات الدولة إسهامات المفكر والفيلسوف الألماني ماكس فايبر الذي يعتبر أحد المؤسسين لعلم الاجتماع الحديث.
كما أدت الثقة المفرطة في العلم التجريبي وادعاء الحقيقة العلمية الواحدة إلى ظهور صراعات كبرى على مستوى المفاهيم والأفكار نظرا لاختلاف المناهج والمراجع والاستدلالات، يتم التعبير عن هذا الصراع في أحد ركائز المفاهيم الحداثية بنظرية الديالكتيك الذي طوره الفيلسوف الألماني جورج هيجل ووسع جدليات التناقض في الفكر حتى صار الدياليكتيك فكرة مركزية من أجل مستقبل الحداثة كعملية أساسية للتحوّل والنموّ والتطور في صعود لا حدود له وهي أساس فكرة التقدّم ، وأثبت من خلال نظريته أن سير التاريخ والأفكار يتم بوجود الأطروحة ثم نقيضها ثم التوليف بينهما ، يعتبر هيغل آخر بناة المشاريع الفلسفية الكبرى في العصر الحديث. حيث كان لفلسفته الأثر العميق على معظم الفلسفات المعاصرة.
من الناحية الاجتماعية يوصف المجتمع في العصر الحداثي المتأخر بأنه مجتمع تأديبي تترصدّ فيه السلطة وتراقب كل شيء بأساس معياريّ منظم تعمل فيه المؤسسات عمل الحراسة والمراقبة وفي الأخير تقدّر العقوبة، يحلل ميشيل فوكو ببراعة مفاهيم القوة والعنف، وعلاقات السلطة والجريمة وإجراءات المراقبة والعقوبات، ويَعتبر الحرية قيمة مثالية يصعب العثور عليها، تؤكد فلسفة الحداثة على قيمة الأمن والأمان ولذلك ترحب بفكرة المراقبة وقوة السلطة بمقابل حياة آمنة محمية، وبالتوازن بين الأمن والحرية يضمن الفكر الحداثي استقرار الإنسان.
*طالب دكتوراه –جامعة الجزائر-1

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com