في رحاب الشريعة

سياسة أبي بكر الصديق وكيف نصره الله بأسباب النصر والتوفيق

أ. محمد مكركب/

كانت الأسئلة التي دفعتنا إلى كتابة هذا المقال، هي: بماذا تغلب الخليفة الأول على فتنة الردة؟ وكيف وفقه الله تعالى لمواصلة الدعوة والجهاد؟ وكيف تحقق له النصر؟ رغم الفتن التي أحاطت بدولة المسلمين في عهده؟ ذرونا نجمع الجواب كله تحت هذا العنوان: {القواعد السياسية الحكيمة التي انتهجها الخليفة أبو بكر الصديق ومن بعده أمير المؤمنين عمر بن الخطاب؟}.
القاعدة الأولى: الثبات على منهج السياسة النبوية. وكان من سياسة النبي عليه الصلاة والسلام توحيد العرب جميعا تحت راية الدين الإسلامي، في مؤسسة الدولة الإسلامية، وإلغاء العصبيات القبلية وتسميات الأحزاب الشركية والزعامات الفتانة، فقاعدة سياسة الاتباع والثبات على المنهاج الديني أكبر عاصم. ورد في خطبته: {أيها الناس، إنما أنا متبع، ولست بمبتدع} وسياسة الاتباع للنبي صلى الله عليه وسلم تعني العمل بالقرآن والسنة، ومن ذلك: الشورى، لأن أبا بكر كان متفقها سياسيا عالما بمدلول الحديث [ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ، فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ، فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ، وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَدَعُوهُ](مسلم: 1337).
القاعدة الثانية: تحقيق المساواة الاجتماعية: أن يعلن إِمَامُ الدولة (الرئيس، أو الملك، أو الأمير) بأنه واحد من أفراد الشعب.. قال أبو بكر في خطبته: (فإني قد وليت أمركم، ولست بخيركم) ويبرهن للرعية عمليا، بأنه يعيش كما يعيشون، كما كان أبو بكر وعمر، لا يشبع إمام الدولة حتى تشبع الرعية، وفق المساواة الشرعية والعدل الاجتماعي عملا بالحديث: [لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ، حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ](البخاري:13).
القاعدة الثالثة: الحزم في حكمة، وصرامة في رحمة: لا يقبل إمام الدولة التهاون في العمل بالشريعة، لابد أن يؤدي الناس الفرائض، وأن يجتنبوا الحرام. ففي صحيح البخاري[لَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتُخْلِفَ أَبُو بَكْرٍ بَعْدَهُ، وَكَفَرَ مَنْ كَفَرَ مِنَ العَرَبِ، قَالَ عُمَرُ لِأَبِي بَكْرٍ: كَيْفَ تُقَاتِلُ النَّاسَ؟ وَقَدْ قَالوا: لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ؟ فَقَالَ: وَاللَّهِ لَأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ، فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ المَالِ، وَاللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عِقَالًا كَانُوا يُؤَدُّونَهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِهِ، فَقَالَ عُمَرُ: «فَوَاللَّهِ مَا هُوَ إِلَّا أَنْ رَأَيْتُ اللَّهَ قَدْ شَرَحَ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ لِلْقِتَالِ، فَعَرَفْتُ أَنَّهُ الحَقُّ](البخاري:7284). فالحاكم الذي ينصر الدين ينصره الله سبحانه.
القاعدة الرابعة: إحكام الخريطة الدفاعية: باختيار القادة العسكريين الأمناء، الذين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم. واستطاع الخليفة بفضل الله تعالى تأديب القبائل المتمردة المرتدة، وأحكم عليهم زمام الالتزام، فبعض الناس تكفيهم الموعظة الحسنة، ويقنعهم الجدال بالتي هي أحسن، وبعضهم لا يرده إلى الصراط المستقيم إلا العصا، والسيف. فما كان من الخليفة أبي بكر الصديق إلا أن وضع خريطة محكمة مع إخوانه القادة الأمناء الحكماء، وضبطوا توزيع القوة الدفاعية لرد القبائل المتمرة إلى رشدها، فبعث عمرو بن العاص إلى قضاعة، في شمالي الحجاز. ومعن بن حاجز إلى بني سليم ومن معهم من هوازن. وخالد بن سعيد بن العاص إلى مشارف الشام وغيرهم إلى الجهات الأخرى بطريقة مدروسة محكمة، منهم: خالد بن الوليد، وطلحة بن عبيد الله، وأبو عبيدة بن الجراح، وشرحبيل بن حسنة، وعكرمة بن عمر بن هشام. وانطلقت الألوية الإسلامية إلى الوجهة المحددة لها، وكان أشد المعارك التي خاضها المسلمون في قتال المرتدين، معركة {حديقة الموت} بين جيش الإسلام، وعصابات القبائل التي اتبعت بني حنيفة مع مسيلمة الكذاب، وكان الذي قاد جند المسلمين هو سيف الله خالد بن الوليد رضي الله عنه، وانتصر على مسيلمة وبني حنيفة، الذين ولوا عليهم مجاعة بن مرارة الحنفي، الذي تولى القيادة بعد مقتل مسيلمة، ولكن القائد العبقري خالد بن الوليد لم يترك له الخيار، وشدد عليه الخناق، فأعلن استسلامه، ومن معه من بني حنيفة. كانت التضحيات في معركة القتال مع بني حنيفة كبيرة وكبيرة جدا، ولكن نتائجها كانت إيجابية، وثمراتها كانت طيبة، وحققت للإسلام والمسلمين نصرا عظيما، وشهرة كبيرة. فقد أوقعت الرعب في قلوب بقية المرتدين في الجزيرة العربية، بل وذيع صيتها حتى بين صفوف الروم والفرس، على أن دولة الإسلام لا تزال قوية، وتفرض قوتها على من يشق عصا الطاعة، أو من تسول له نفسه أن يعتدي على دولة الإسلام.
القاعدة الخامسة: تسليم زمام المشاريع الكبرى والمهمات المصيرية للقادة المخلصين والمتخصصين، من أبناء الأمة. وكانت حروب الردة فرصة لظهور قادة ميدانيين، اكتسبوا خبرة في القتال، وأصبحوا أهلا لقيادة عمليات خارج الجزيرة، ومن بين أولئك الرجال: سعد بن أبي وقاص، وخالد بن الوليد، والقعقاع بن عمرو، وأخاه عاصمًا، وعمر بن العاص، وجرير بن عبد الله، والمثنى بن حارثة الشيباني وغيرهم. وما تخلفت الشعوب المتخلفة إلا عندما همش وأبعد رجالها وعلماؤها وأبطالها، وقدم رعاعها وجهالها.
من قواعد السياسة الشرعية تسليم زمام المهام للرجال الخبراء المحنكين، والقادة المخلصين، ومشاورة العلماء باستمرار.. بهذا استطاع الخليفة أبو بكر، ومن بعده عمر بن الخطاب، أن ينتصروا على الفرس، عبدة النار، والروم عبدة الصليب، وعلى الفتن كلها.
القاعدة السادسة: فتح باب الحوار المباشر مع الرعية؛ فلا تغلق الأبواب في وجه من يريد النصح، أو النقد، كما كان الصحابة يكلمون النبي صلى الله عليه وسلم على المباشر.
القاعدة السابعة: التلازم بين الوحدة الدينية والوحدة السياسية، حيث كانت الوحدة السياسية بعد الوحدة الدينية ضرورية لدفع العرب خاصة إلى ولاء يجمعهم في جزيرتهم العربية، وأطرافها.
القاعدة الثامنة: التبيين للناس بما يجب عليهم؛ فقد كتب أبو بكر كتابا مفصلا واضحا للمرتدين، والقبائل المتمردة، وأرسل نسخة من الكتاب مع كل قائد إلى الجهة التي كلف بالتوجه إليها، وأخبر أنه سيضرب يبد من حديد كل من لم يستجب، إنه الحزم والعزم.
بسم الله الرحمن الرحيم من أبي بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى من بلغه كتابي هذا من عامة وخاصة، أقام على إسلامه أو رجع عنه، سلام على من اتبع الهدى، فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو وأشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله، نقر بما جاء به ونكفر من أبى ونجاهده.
أما بعد: فإن الله أرسل محمدا بالحق من عنده إلى خلقه بشيرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين، فهدى الله بالحق من أجاب إليه وضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بإذنه من أدبر عنه حتى صار إلى الإسلام طوعا أو كرها، ثم توفى الله رسوله صلى الله عليه وسلم وقد نفذ أمر الله ونصح لأمته وقضى الذي عليه، وكان الله قد بين له ذلك ولأهل الإسلام في الكتاب الذي أنزل، فقال: ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ﴾(الزمر: 30) من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ومن كان يعبد الله وحده لا شريك له فإن الله له بالمرصاد، حي قيوم لا يموت ولا تأخذه سنة ولا نوم، حافظ لأمره، منتقم من عدوه، وإني أوصيكم بتقوى الله، وما جاءكم به نبيكم صلى الله عليه وسلم وأن تهتدوا بهداه، وأن تعتصموا بدين الله.. وقد بلغني رجوع من رجع منكم عن دينه بعد أن أقر بالإسلام.. وإني بعثت إليكم – فلانا – في جيش من المسلمين، وأمرته أن لا يقاتل أحدا ولا يقتله حتى يدعوه إلى داعية الله، فمن استجاب له وأقر وكف وعمل صالحا قبل منه وأعانه عليه، ومن أبى أمرته أن يقاتله على ذلك، ويقتلهم كل قتلة.. ولا يقبل من أحد إلا الإسلام، فمن اتبعه فهو خير له، ومن تركه فلن يعجز الله}(تاريخ الطبري: 2 / 280، البداية والنهاية: 6/347).

 

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com