الفلسفة الجزائرية بين جيلين تعقيب على مقال الدكتور علي حليتم/ محمد مراح
طال أمد عهدنا بقراءة مقال كمقال الدكتور الفاضل علي حليتم (البصائر- الثلاثاء 8 ربيع الثاني 1439ﻫ 26-12 ) ، في موضوعه بهذا النضج والإبداع والإدراك العميق .
ففعلا فإن متابعة ما ينتجه أغلب من درسوا ويدرسون ويكتبون في الفلسفة لدينا -بالطبع – هذه الأوصاف الثلاثة لا تمنحهم فرص الفوز بصفة (فيلسوف) . يموجون بين واديين هما : وداي (شلفطة ) نسخ إبداعات الفلسفة الغربية من غير أصولها ومصادرها التي كتبت فيها . ووادي الاحتقار والتعالي والـ ( تمسخير ) بروح الأمة الاعتقادية والتشريعية الإسلامية .
وبالتالي حاصرتهم جُدُر الواديين بالانعزال عن واقع البلاد والعباد ، وتقلبات الأحداث فيهما ، فغدا وجيبهم أنفاس سوداء باردة متصلبة لا حياة فيها غير صلافة وهجنة تعبيراتهم التي اعتقدوها حاملة فكرا وفلسفة معاني .
وعلى الرغم من أننا في الجزائر لم نكد نظفر بقامات فلسفية كبيرة كما على الأقل لجيراننا ، إلا أن الجيل الذي رسم وجها فلسفيا للبلاد في الحقبتين الاستعماريتين و نحو ثلاثة عقود بعد الاستقلال وبغض النظر عن الإيديولوجيا والمذهبية الفكرية والسياسية التي اعتنقها كلّ من أولئك الرواد ،فإنهم منحونا شخصية فلسفية جزائرية ذات ملامح تستحق التقدير ؛ من بينها :
– الروح الوطنية العميقة ، حتى لتكاد تجزم أنها أقوى محرك لهم في تشييد صرح فلسفي جزائري صميم .
– الروح المناضلة ضد الاستعمار حضورا و ماضيا وسيرورة .
– حاسة التوجس الدقيق للمخططات الاستعمارية والصهيونية للعالم ، وخصوصا للحضارة والعالم الإسلاميين .
– نصرة القضايا العادلة في العالم و في مقدمتها القضية الفلسطينية، و تصفية الاستعمار . أي قضايا إنسانية عادلة ، تميز الفلسفة الأخلاقية عن النفعية المقيتة .
– عدم معاداة كل أركان وعناصر الهوية الوطنية جميعا ؛ دينا ولغة وتاريخا ومحتدا؛ بل تفاوتت وتباينت مواقفهم في مقاربات رؤاهم حول واقع البلاد ومستقبل أجيالها .
– إن لم تكن سعات اطلاعاتهم على الفلسفات الغربية في وقتهم بالقدر نفسه الذي نجده لدى مجايلهم العرب والمغاربة خصوصا -بالطبع الاستثناء قائم مثلا مالك بن نبي – لظروف تاريخية محضة تندرج تحت مصطلح (المعامل الاستعماري ) ، فإنهم أحسنوا توظيف اطلاعاتهم على الفلسفة الحديثة، بما تميزت به هممهم ونبوغهم وذكاؤهم ، وما وفقوا إليه من استيعاب مميز لفلسفة ابن خلدون على وجه التحديد، فأبدعوا لنا فلسفة جزائرية وطنية يمكن وصفها بـ (المدرسة الفلسفية الجزائرية الخلدونية) .
– وقد يكون الأهم في كل هذا -من زاوية رؤية مقال الدكتور الفاضل علي حليتم – إبداعاتهم التحليلية للواقع الجزائري وقضايا الوطن والمواطن ، ومستقبل البلاد بحيوية وشجاعة وجرأة ووطنية وصدق، وروح ثورية وتوخي الخير للبلاد، والتمازج مع الروح الشعبية الجزائرية الصافية ، ومعاناتها بسبب الاستعمار البغيض . وكذا التطلع لمستقبل ومكانة تليق ببلد أنجز مهمة حضارية عظمى أهلتها للوصف بـ (كعبة الثوار) .
إنك واجد كل هذا إجمالا في فكر مالك بن نبي ، وعبد الله شريط وعبد المجيد مزيان ومولود قاسم رحمهم الله وعبد الرزاق قسوم وعمار طالبي -وهما الآن يواصلان المهمة الفلسفية الاجتماعية بهمة ونشاط وإخلاص وقوة من المفروض أن تخجلنا نحن طلابهم وأبناؤهم حفظهما الله وبارك في جهادهما العلمي الفلسفي الدعوي .
ومن النماذج المبدعة في مزج الفلسفة بالحياة والواقع السياسي والثقافي والاجتماعي كتابات المرحوم الدكتور عبد الله شريط ؛ فكتبه : معركة المفاهيم -من واقع الثقافة الجزائرية -المشكلة الأيديولوجية في الجزائر -حوار أيديولوجي حول قضية الصحراء والقضية الفلسطينية – نظرية حول سياسة التعليم والتعريب -و عمله الموسوعي الثورة الجزائرية في الصحافة الدولية ، تقوم شامخة في الممارسة الفلسفية المناضلة اجتماعا وثقافة وسياسة، بغض النظر عن النزعة الاشتراكية الإيديولوجية التي كان يصدر عنها المفكر الفيلسوف، فإنك ستجد نفسك أمام شخصية فكرية فلسفية مناضلة صقلتها ثورة عظيمة ، حتى كتيبه المترجم عن الفرنسية لكاتب فرنسي لا يحضرني اسمه ك(أخلاقيات غربية في بلادنا ) طوعه في سياق ممارسته الفلسفية الفكرية بمعالجة المشكلات الاجتماعية من زاوية الفلسفة الأخلاقية التي بنت فكره الفلسفي الأخلاقي مذ أبدع كتابه(الفكر الأخلاقي عند ابن خلدون).
وخذ أيضا المرحوم الدكتور عبد المجيد مزيان صاحب نظرية الاستلاب الحضاري التي ساهمت في تصحيح فكر وثقافة جيل كامل نحو هويتهم، فضلا عن إبداعه الكبير في كتابه (النظريات الاقتصادية عند ابن خلدون) .
أما المرحوم العبقري مولود قاسم الذي نعتقد أنه لو نشأ في غير الظروف الاستعمارية التي عاشها ونشأ ومرّ به جيله في الجزائر ، فمثلا لو نشأ في بيئة مستقرة حضاريا وسياسيا كأوروبا لكان في زمرة كبار فلاسفتها ومفكريها ؛ فنظرة تقديرية لمنجزاته الفكرية والثقافية تجعلك تقول : إننا أمام مفكر ومصلح وفيلسوف كبير رسم خطة ثقافية كبيرة طموحة للبلاد، عمل على تمريرها عبر وظيفته السياسية (وزارة الشؤون الدينية) ، وهي توليد فكر جزائري وثقافة جزائرية أشرف على مراحل ولادتها رموز الفكر والثقافة والعلم في العالم العربي والعالم الإسلامي من جهة، ومفكرو وفلاسفة مراكز الحضارة الغربية المعاصرة من جهة ثانية، و مفكرون وفلاسفة من بقية العالم ؛ أي أن الرجل أراد من خلال ملتقى الفكر الإسلامي أن ينشئ فكرا وفلسفة وثقافة جزائرية متشبعة بالفكر الفلسفي والإسلامي المعاصرين ، مع استحضار للتاريخ الوطني واستحضاره بطريقة في غاية الذكاء ؛ إذ كان يخصص في كل مؤتمر محاور لتاريخنا الوطني في مختلف العصور . و هذه العناصر مجتمعة هي محضن تنشئة فكر وفلسفة وثقافة جزائرية ، تؤهلها لمستوى الإضافة المميزة لثقافات العالم المعاصر . لكن للأسف فمراصد الاستعمار لم تكن لتسمح للمولود بالاكتمال . أما منجزه الكبير فلسفيا وفكريا فكتابه النفيس (إنية وأصالة ) .
ولنا أيضا ان نستحضر أيضا المرحوم النبيل الدكتور ربيع ميمون صاحب كتاب (نظرية القيم) الذي يعكس إلى جانب الفكر الفلسفي الناضج ، الروح النضالية والقيمية التي يحتاجها البناء الوطني .
ومنهم رحمهم الله الدكتور أحمد عروة المبدع المناضل في صمت الكبار المخلصين بممازجته الطب والفلسفة والدين والأدب الإسلامي العظيم في مزيج فلسفي مناضل إنساني إصلاحي
الحق أن تقدير الجهد الفلسفي الجزائر لدى جيل الرواد يجعلك تطمئن لأمور منها : جدارة الانتماء الفلسفي ، وروح النضال الأصيل للوطن والهوية والتاريخ ، التمازج بالهم الاجتماعي والسياسي والعلمي ، وحضور مأساة الإنسان المعاصر مع ازدواجية معايير حضارة عظيمة وجبارة علميا وفكريا وسياسيا ، لكن ظالمة وغاشمة وممالأة لسارقي الأرواح والثروات والأوطان .
وفي ملمح نعتقد أنه جدير بالتمعن في سياق حديثنا ، محاولة تقديرية لجهد فلسفي مميز من ناحية دعوية ؛ قد يكون من خيرة ممثليها الدكتور الداعية العربي الكشاط ؛ فأنت تجد في طروحاته الدعوية ذاك الثراء المعرفي الرصين فكرا وفلسفة الثقافة الغربية (الفرنسية) على وجه الخصوص، إلى جانب معرفته الشرعية والإسلامية ، فقد سخّر كل ذلك لعمله الدعوي والتواصلي مع الشباب المهاجر من ناحية ، ومع مراكز الفكر والثقافة والفلسفة الفرنسية على نحو يمنحك تشكيل ملمح لممارسة دعوية ميدانية اجتماعية ثقافية علمية فلسفية تليق بمستوى تحديات العصر التي يواجهها المسلمون في المهجر . وغني عن القول إن هذا الجهد معتبر من زاوية وطنية نسبة وإضافة ؛ فمهاجرونا في فرنسا هم جزء من النسيج الوطني ضرورة وواقعا أو على الأقل هكذا هو حال أغلبيتهم الساحقة .
رغم أن جيل من ينسبون أنفسهم للفلسفة الآن خصوصا من مواقعهم الأكاديمية لا تكاد تجد من بينهم من يمثل الفلسفة من زاوية تقدير الدكتور علي حليتم؛ فإننا لا نعدم من جيل الثمانيات والتسعينيات إلى الآن من أبدى قدرات فلسفية وفكرية وثقافية مميزة ومبدعة ومناضلة ، متفاعلة مع قضايا العصر ومشكلات المجتمع بطروحات إبداعية أصيلة وحيوية واستشرافية قوية ، لعل من أفضلها وألمعها تمثيلا الأستاذ فضيل بومالة الذي ملأ الصحف والقنوات والمحافل الثقافية والفكرية بحيوية طرحه، وفكره الناقد، و مقارباته الواقع بفكر ثري اطلاعا وتمثلا وإضافة .
وختاما نردد مع الدكتور علي جزاه الله خيرا قوله : (ن الفلسفة الجزائرية لن تبعث إلا في ظل تصالحها مع مجتمعها واشتغالها على ما يهمه من إشكاليات كوحدته الوطنية وتفكيك منظومة ما بعد الاستعمار والتغريب والصهيونية.