مقالات

غباء من يدّعي الذكاء!!!

أ.د: عبد الحليم قابة/

شاعت عند كثير من الأدعياء (موضة شنيعة) وهي فكرة اتّهام الأمة وعلمائها بالغباء وسوء الفهم للدين ونصوصه، هكذا بالتعميم، ودون استثناء، وأن ذلك هو سبب تخلف الأمة وتقهقرها، وصاحَبَ ذلك ادّعاءُ الفهم الحضاري!!! للدين، والمبالغة في مدح كل من شاركهم في هذا الطريق المُهلك، وسلك هذا السلوك المشين. والعياذ بالله.
وأكبر دليل عندهم على ضلالهم المبين؛ التقليد الأعمى للمستشرقين واجترار كلام المستغربين، بترديد بعضِ الأقوال الفقهية التي أُخِذت من ظاهر النصوص الشرعية، وفتاوى أكابر علماء الأمة وثقاتها سلفا وخلفا، ودعوى مخالفتها للعقل، والتي ينبغي أن تُرمى في المزبلة!!! (على تعبيرٍ سيّءٍ جدا لأحد المرضى بهذا المرض، شفاه الله وهداه).
وللجواب على هذه الشبهة أطرحُ بعض الأسئلة، وأترك الجواب لكل أحد منّا إذا كان لديه شيءٌ -ولو يسير- من عقل وفهم وعلم ووعي وأدب.
أولا: ما ذنب جمهور علماء الإسلام إذا ثبت لديهم نصٌّ شرعي يُثبت حكما شرعيا، وقال بمقتضاه كبار الصحابة والتابعين وجماهير علماء الأمة من زمانهم إلى زماننا، بل هو محل إجماع عند كثيرين من منظري الأمة؟!
أليس هذا هو واجبهم؟ وكيف ننكر عليهم ما يجبُ عليهم؟
• فمَن الغبيّ؛ المستجيب لأمر الله أم المعرض عن ذلك؟!
قال تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلا}».
ثانيا: هل يجوز لعالم يخاف الله أن يقول بمقتضى هواه أو فهمه مخالفا صراحة نصا شرعيا ثابتا لديه، وهو يؤمن أن مصدر الدين هو الوحي وليس الهوى؟!
وقد قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُّبِينًا}.
• فمَن الغبيّ؛ الذي ترك اختياره لاختيار الله ورسوله أم مَن خالف ذلك؟!
ثالثا: هل الواجب هو ردّ النص الشرعي مباشرة بدعوى مخالفة العقل، أم أن الواجب هو التسليم أدبا مع الله (ويُسلِّموا تسليما) ثم البحث -بعد ذلك- عن دعوى المخالفة؛ هل هي حقيقية بحيث يتبناها كل العقلاء، أم أن هناك إشكالا فقط نبحث كيف أجاب عنه علماء الأمة وثقاتها وعقلاؤها، أليس هذا هو المسلك الأصوب والأسلم؟
والحقيقة أن المشكلة قائمة عند من يدعي المخالفة لا عند غيره؛ لأنها مخالفةٌ لفهمه وهواه، لا لمقتضى العقول كما يدّعي، بدليل موافقة ملايين من العقلاء على هذا المقتضى؟!
• فبالله عليكم مَن الغبيّ؛ المتريِّث أم المستعجل، الطائش أم المغرور؟!
رابعا: هل يسمع هؤلاء الأدعياء -ومن تأثّر بهم- بعلم تميّزت به هذه الأمة اسمه: علم مشكل الحديث، وعلم آخر اسمه علم مختلف الحديث، وهل قرأوا كتابا اسمه تأويل مشكل القرآن، ونحوه من كتب عقلائنا التي وُضعت لعلاج مثل هذا الشذوذ، ولطمأنة الأمة على حفظ الله لدينها، وسلامة مصادره ليبقى حجة إلى قيام الساعة؛ لأنه لا نبي بعد محمد صلى الله عليه وسلم، أم أن الله أنزل هذا الدين وأقام به الحجة على الأولين لكنه ضيَّع الآخرين؟! سبحانك هذا بهتان عظيم.
• ثم قولوا لي يرحمكم الله: مَن الغبيّ؛ العالم المتبصّر، أم الجاهل المتكبر؟
{قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَاب}[الزُّمَر:9].
{أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَاب}[الرعد:19].
خامسا: ما ذنب المسلم الذي يأخذ حكما من أحكام دينه عن علماء ثقات هو مأمور في كتاب ربه أن يعود إليهم لفهم نصوص القرآن والسنة، خاصة إذا وجدهم متفقين على ذلك، وكان لديه آلاف الأدلة على عدالتهم وثقتهم وغزارة علمهم، بخلاف مخالفيهم من أدعياء التجديد والتنوير الذين لا يكاد كثير منهم أن يقيم جملة دون لحن، بل ما ذنبه إذا أراد أن يعمل بقرآنه ويحتاط لدينه، أهو على ضلال مبين كما يقول هؤلاء المجرمون في حق الأمة ودينها؟ أم إنه على هدى من ربه؟!
قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُون} [النحل:43] والعبرة عند الأمة وعقلائها وأذكيائها بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، لا كما يدّعي من يريد علمنة الإسلام.
• فمَن الغبيّ؛ الذي يستفيد من غيره من الأكابر والعلماء، ويستشير العقلاء والخبراء، أم من يسلك سبيل التقليد المطلق للكفرة وذيولهم من المفتونين بهم بيننا، ولو كان كلامهم جهلا مطبقا؟!
سادسا: ماذا نقول لربنا غدا إذا سألنا عن نصوص بلغتنا صريحةً، ثم أعرضنا عنها بل حاربناها واستهزأنا بها، هل ينفعنا أن نقول له: والله ما دخلت عقلولنا، أو أقنعنا فلان بأنها يستحيل أن تكون صادرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم!
أفلا نخاف أن يقال لنا: أنتم مأمورون بعبادة الله الذي خلقكم وخلق عقولكم، ولم تُؤمروا بعبادة عقولكم وأهوائكم حتى يعترض أحدكم على الله بفهمه ويدّعي أن النص يخالف العقل؛ ذلك لأن الله يستحيل أن يأمرك بما يخالف قضايا العقول التي هي سنن الله في الكون والتي يتفق عليها جميع العقلاء، فما وجدتموه من مخالفة فاتهموا فهومكم إذا كنتم من العقلاء، ثم اسألوا أنفسكم: ألا يخيفكم ما في القرآن من التحذير من الاعتراض على الأنبياء بالأهواء، وما فيه من عاقبة أهلها؟!
قال تعالى: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاَغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الإِنسَانَ كَفُور}[الشورى:48]. ومعلوم أن الإعراض يكون بالشبهة أو العناد.
• فمَن الغبي؛ الذي يعبد الله وحده، ويتهم عقله، أم مَن يعبد هواه ويُؤلِّه عقله؟
سابعا: نطمع أن نطرح سؤالا قرآنيا على هؤلاء خاصة وعلينا عامة، فينفعهم وينفعنا بإذن الله؛ لأن جوابه واضح لمن ألقى السمع وهو شهيد:
قال تعالى: {أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيم}[المائدة:74].
• فمَن الغبيّ؛ من يتوب ويعود إلى طريق الهداية، أم من يستكبر ويُصِرّ على البقاء في طريق الغواية؟
أرجو أن نترك الغباء والاستغباء، ونضع أيدينا في أيدي علمائنا، ونسلك سبيل أمتنا، فذلك أسلم لنا وأتقى.
{وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا * إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا} [النساء:116/1165].
أخيرا: نقول لهؤلاء إذا أرادوا التجديد -حقّا وصدقاً- بأن ساحة التجديد واسعة، وإذا أرادوا الإصلاح -حقا وصدقا-: إن مجال الإصلاح كبير، فادخلوا البيوت من أبوابها يرحمكم الله، واتركوا الأمة في طمأنينة اليقين، وسكينة الاهتداء والوفاق، ولا تكونوا من الذين يشملهم قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُون}[الأنعام:159].
وخافوا من عاقبة قوله تعالى: {لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُون}[النحل:25].
نسأل الله الهداية والسلامة للجميع.
والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com