الحياة العابثة…
يكتبه د. محمّد قماري/
خلوت ُ مع نفسي أتأمل في هذه الحياة، وفجأة طرأ عليَّ سؤال ملح: ماذا لو كانت نهاية رحلة الإنسان تتوقف يوم يغادر هذه الحياة الدنيا؟ وبدت لي القصة مأسوية يلفها الظلام من كل جانب، هل يسدل الستار على هذه الرحلة وعلى مسرح الحياة من عاش مجرمًا، يستبيح كل شيء يقتل ويسرق ويطغى ويستذل، أين حق الضحايا والمستضعفين؟ بل لمَ كانوا مستضعفين؟ وفي الجانب الآخر أناس يبشرون بالخير وبه يعملون، هل كل هؤلاء يلفهم باطن الأرض، ثم لا شيء بعد ذلك؟
ووجدت لسان يلفظ عبارة (هذا عبثٌ)، ثم سألت نفسي عن معنى العبث، ما معنى هذه الكلمة، وكان لزامًا عليَّ أن استنجد بمعاجم اللّغة، فوجدت أن (عَبَثَ) تعني الفعل: (لاَ فَائِدَةَ فِيهِ، بِلا مَعْنـىً)، وما الذي يميز الإنسان عن بقية المخلوقات إذا غاب المعنى، وكل ما فينا ينطق بالبحث والتنقيب عن المعنى الذي من غيره لا تستمر الحياة؟
هذا السؤال الوجودي هو الذي دفع بالشاعر اللبناني (إلياء أبو ماضي) أن يكتب قصيدة الطلاسم، وكلنا نكتب هذه القصيدة في حياتنا ولو في لحظات عابرة، من أين جئت إلى هذه الدنيا؟ ولمَ جئتها؟ وأين أذهب بعد مغادرتها؟ وهل هناك عودةٌ اخرى؟ يقول إلياء في (الطلاسم):
جِئتُ لا أَعلَمُ مِن أَين وَلَكِنّي أَتَيتُ **وَلَقَد أَبصَرتُ قُدّامي طَريقاً فَمَشَيتُ
وَسَأَبقى ماشِياً إِن شِئتُ هَذا أَم أَبَيتُ **كَيفَ جِئتُ؟ كَيفَ أَبصَرتُ طَريقي؟ لَستُ أَدري
***
أَجَديدٌ أَم قَديمٌ أَنا في هَذا الوُجود؟ ** هَل أَنا حُرٌّ طَليقٌ أَم أَسيرٌ في قُيود؟
هَل أَنا قائِدُ نَفسي في حَياتي أَم مَقود؟** أَتَمَنّى أَنَّني أَدري، وَلَكِن لَستُ أَدري
ثم يعرض لطائفة من الأسئلة كتلك التي سألتها أنا في البداية، إذا كانت نهاية الرحلة مع آخر نفس، فأي قيمة للفضيلة؟ وأين القصاص من الظلمة والطغاة؟ ومشكلة إلياء ومشكلة ضحايا (طغيان العقل) أنهم ظنوا أن القضية فلسفية بمعايير البرهان، وكيف للبرهان أن يستقيم وهو يبحث في مصير وصيرورة هذا العقل نفسه، لأجل ذلك قال الطبيب والفيلسوف الرازي، بعد أن يئس من طريق (المتكلمين) في تخطي هذه العقبة الكأداء:
نهايــــة إقــــــدام العقـــول عقــــــــال *** وأكثر سعي العالمين ضـــــــلال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا *** سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا
لابد من مصدر آخر (عليم خبير)، وهو الذي جعلنا على هذا المسرح، مسرح الحياة ليخبرنا عن البداية والنهاية، يخبرنا أن حكمته ولطفه تتنافى مع (العبث)، ويمدنا بالتفسير الذي يريح العقل من الإقدام وهو في عقاله أمام هذه المسألة الخطيرة، ولأجل ذلك احتجنا لرسالة السماء، احتجنا إلى مبلغ يعطينا الجواب الشافي، ما الذي يكتنف هذه الرحلة على ظهر الأرض، وفيها من مظاهر العسف والقهر والشقاء الكثير؟
قرأت هذه الآية من القرآن الكريم {أَفَحَسِبْتُمْ أيها الخلق أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} (المؤمنون/115)، كأنها تجيبني أنا وحدي عن سؤال (العبث)، وتؤكد أن الستار إذ يسدل إنما هو مجرد فاصل بين مشهدين، وأنَّ هناك (رجعة)، ثم يأتي تعقيب التنزيه: {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ}(المؤمنون/116)، هنالك (الملك الحق)، يقضي ويفصل، ويحاسب ويجازي ويعاقب…
يا للراحة والاطمئنان، إنه الشعور بالعدل بعد هذه الرحلة، هناك يقف الظالمون عراة من غير سلاح، ويقف المظلومون ومن طحنتهم آلة القهر والذل، يقفون أمام (الملك الحق)، وتبدو المسيرة في مجملها قضية وقت يمر سريعًا في هذه الدنيا، بآلامها وملذاتها، ويواجه كل واحد مصيره، أمام (الملك الحق)، حيث يبدو من ظنوا أنهم ملوك الدنيا أقزامًا ينتظرون مصيرهم مثل غيرهم…
يقول الشيخ محمد الطاهر بن عاشور في (التحرير والتنوير)، تعقيبًا على تلك الآية: (أنه لو خلق الخلق فأحسن المحسن وأساء المسيء ولم يلق كل جزاءه لكان ذلك إضاعة لحق المحسن وإغضاء عما حصل من فساد المسيء فكان ذلك تسليطا للعبث)…
هكذا تستقيم الأمور، فالحياة الدنيا ما هي إلا فصل أول من مسرحية تسمى الحياة، فيها تتصاعد دراما الظلم، ودراما القهر، وفيها يظهر مستكبرون يسحقون المستضعفين، ويستذلونهم فإذا ما حاولوا المقاومة سلطوا عليهم ما يملكون من وسائل القهر، وربما اقدموا على ازهاق أرواحهم واستباحة ما يملكون، ولذلك سموا (شهداء) لأنهم رسموا معالم المقاومة لغيرهم من المستضعفين، وهم شهداء على الظالمين أمام (الملك الحق)…والحياة وفق هذا التصور جديرة بأن نحياها، وجديرة بأن نعمرها بالخير، وأن ننحاز فيها إلى جانب المستضعفين.