على هامش التنوير

«التنوير» العربي والسلطة: تباهٍ بالديمقراطية وتماهٍ مع الاستبداد

أ.د. عبد الملك بومنجل/

 

الديمقراطية في الحكم وإدارة شؤون الدولة وأسلوب التعامل بين المختلفين، ركنٌ أساسٌ من أركان التنوير الغربي والحداثة الغربية. ولعله أفضل أركانهما، وأزكى نتائجَ، وأظهرُ منافعَ علمية وعملية؛ فقد أدّى إلى تقليل الصراعات السياسية المدمرة، وتحقيق استقرار سياسي مكّن الدول الغربية من الاستمرار في استكمال نهضتها العلمية والاقتصادية، ومكّن الشعوب من أن تستمتع بقدر وافر من الحرية والكرامة والعدالة، وأن تتفجر المواهب فيها وتنطلق في كل اتجاه غيرَ مقيّدة بتلك القيود النفسية والسياسية والإدارية والثقافية التي تفشو في الشعوب التي تتولى أمرها أنظمة استبدادية. وقد كان منتظرا من التنويريين العرب أن يعضوا على هذا الركن التنويري الغربي بالمخالب؛ لمكانته في منظومة القيم التنويرية الغربية، وأثره في تنوير الإنسان بكرامته البشرية وحقوقه الطبيعية، وتحريره من ألوان الاستعباد والاضطهاد التي تحوّلت بسببها الدولة من إطار منظّم للحياة الاجتماعية إلى وسيلة استئثار بالملك العام، واستبداد بالرأي، واضطهاد للمختلف والمعترض وغير الواقع تحت رعاية جهة سلطوية!
ولكن رموز «التنوير» العربي سلك أكثرهم غيرَ هذا المسلك، وأظهروا من المواقف العملية خلافَ ما تُدبِّجُه بياناتهم النظرية؛ فهم في معرض السجال الإِدْيُلوجي يُظهِرون من التباهي بالديمقراطية السياسية والثقافية ما لا مزيد عليه، ومن مناهضة الاستبداد والاستعباد والاضطهاد والاستئثار بالرأي والسلطة والحقيقة ما يوهمُ قارئ تلك البيانات أن إيمانهم بالديمقراطية فاقَ إيمان الغربيين أنفسهم؛ ولكنهم حين توضعُ شعاراتهم على المحك تتبخّر في رمشة عين، ويظهر لهم من المواقف والسلوكات والخيارات ما يندى له جبين الديمقراطية والحرية والكرامة الإنسانية!
إنهم ينتقلون حينذاك من التباهي بالديمقراطية إلى التماهي مع السلطة الاستبدادية: تستدرجهم إلى وزاراتها فيُهرولون فرحين بما آتاهم السلطان من فضله، غير مبالين بالخواء الديمقراطي الذي يصفّر في دهاليز تلك الوزارات، وغير معترضين على ألوان الفساد والرداءة والاستبداد التي تتراءى لهم في كل مشهد، بل ربما بالغوا في إرضاء السلطان الذين هم حاشيته بمزيد من إظهار التكيف مع فساده ورداءته واستبداده!
«التنويريون» الذين تولوا مناصبَ وزارية أو إدارية عليا في إطار حكومات بادية الفساد والاستبداد كثيرون، إن شئتم أن نبدأ بأولهم بدأنا بطه حسين، وإن شئتم أن نثنّي بأحد المتأخرين ثنّينا بتلميذه الوفي النجيب جابر عصفور، وكلُّكم يعلم أنه تولى وزارة الثقافة في أكثر المنعطفات السياسية المصرية تلبُّسا بالاستبداد؛ وهو منعطف موقعة الجمل، حيث أصرت سلطة مبارك حينذاك على رفض مطالب الشعب المعبَّر عنها في مظاهرات عارمة بالملايين، فلم تستجب لمطلب رحيل الرئيس، بل داهمت المعتصمين بالبغال والجمال، بعد أن عيّنت حكومة جديدة، ضمن طاقمها «الديمقراطي» الكاتب «المستنير» جابر عصفور!
سقطت تلك الحكومة سريعا بسقوط الرئيس، وبقيت تجربة جابر عصفور في الولاء لسلطة متعفنة شاهدا على بؤس خطاب «التنوير». ولم يقتصر ولاء «التنويريين» العرب للسلطة الفاسدة المستبدة على هذين المثالين، بل الأمثلة كثيرة؛ وهل استطاعت هذه السلطة التنظير لخياراتها البائسة إلا بهم، وتنفيذ خططها الفاسدة الجائرة إلا بمساندة منهم؟ وهل استطاعت أن توقف كل مشروع تغيير وتحرير، وتدمّر كل معارضة فاعلة، وتئد كل انعطاف ديمقراطي حقيقي، وهو في مهده، إلا اعتمادا عليهم واستنصارا بهم؟
في كل منعطف ديمقراطي تحرري حقيقي كانت أقلامهم تدعم الاستبداد وتلعن من «يسعى إلى نشر الفتنة وإحياء الحضارة في البلاد». وفي كل منعطف انقلابي مدمّر يقهر إرادات الشعوب ويعصف بآمالها، بل ويسفك دماءها ويهتك أعراضها، كانت مواقفهم تتماهى مع السلطة كل التماهي، وتتباهى بصمودها في وجه التغيير كل التباهي، والأمثلة كثيرة، قديمة وحديثة، وربما يحسن أن نذكّر بالفرح «التنويري» العارم بالمحاولة الانقلابية الفاشلة على الديمقراطية التركية منذ بضع سنين، كما يحسن التذكير بالموقف «الديمقراطي» القميء للمستنير جدا محمد أركون مؤيدا لمنع ارتداء الحجاب في البلد الذي يستضيفه ويرعى تطبيقاته المعروفة المغزى. وكفى بهذين مثالا على الانفصام في شخصية «التنويري» العربي: متباهيا بالديمقراطية، متماهيا مع الاستبداد!

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com