اتجاهات

همسة في أذن تارك الصلاة

عبد العزيز كحيل/

قال ابن عطاء في حكمه: «الصلاة طهرة للقلوب من أدناس الذنوب واستفتاح لباب الغيوب»، وقال: «الصلاة محل المناجاة ومعدن المصافاة (…) عَلِمَ وجود الضعف منك فقلل أعدادها، وعلم احتياجك إلى فضله فكثر أمدادها».
يعلم جميع المسلمين مهما كانت درجة ارتباطهم بأحكام الإسلام أن الصلاة عماد الدين، من تركها فقد هدم الدين، فهي الركن العملي الأول، تطهر القلب مما أصابه من آثار الذنوب، وتستفتح أبواب السماء ليتنزل المدد الرباني والتوفيق الإلهي ويكتب صاحبها في الملأ الأعلى من المقبولين، لكن الملاحظ أن ترك الصلاة أصبح ظاهرة لا تخطئها العين، درج عليها الكبار والصغار والنساء والرجال، وشيئا فشيئا أصبحوا يقابلون هذه الشعيرة العظيمة باللامبالاة ويجدون التبريرات لتركها، اقتدى الأطفال بآبائهم والفتيات بأمهاتهن فعمت البلوى، وقلّ رواد المساجد بعد أن كانت – في الثمانينات – تغصّ بالمصلين في صلاة المغرب كأنه جمعة، وزاد الطين بلة أن كثيرا من الدروس المسجدية والتلفزيونية ونحوها تتناول تفاصيل الصلاة وأحكامها لكنها قليلا ما تركز على تركها وحكم ذلك وعاقبته – تماشيا مع الأجواء العلمانية السائدة التي تنزعج من هذا الخطاب -، وحتى كثير من الملتقيات الإسلامية والندوات واللقاءات تتطرق إلى الموضوعات الفكرية والتربوية والسياسية لكن قلما تلتفت إلى الصلاة وكأننا انتهينا من قضيتها، وكم كان الداعية الهندي الكبير وحيد الدين خان حكيما حين دُعي إلى مؤتمر إسلامي عالمي حضره العلماء والمفكرون فاختار لمداخلته موضوع الصلاة… وكان موفقا، فهي مقدمة على كل موضوع أو محور آخر بالنسبة لأي مسلم سواء كان فردا أو جماعة أو حزبا.
هل يدري تارك الصلاة أن مصيبته أعظم من مصيبة إبليس؟ فإبليس رفض السجود لآدم أما هو فإنه يرفض السجود لرب آدم، فماذا بينه وبين الله كي لا يحب لقاءه ويستنكف عن التلذذ بمناجاته والجلوس في محرابه؟ يسمع مناديه خمس مرات كل يوم فلا يجيب ولا تتحرك فيه شعرة…هل مات قلبه؟ هل في قلبه إيمان وإسلام؟ هل يعلم أن أول ما يُسأل عنه في قبره هو الصلاة؟ بماذا سيجيب حين يُسأل آنذاك عن التفريط فيها والإعراض عنها؟ إذا ألقينا على واقعنا نظرة خاطفة لاحظنا أن هذا المسلم لا يفوّت مباراة مهمة لكرة القدم، من أجلها يتغيب عن العمل ويفرط في واجباته الأسرية وينسى أمراضه والتزاماته، ومن شبه المستحيل أن يتهاون في مشاهدة المباراة، فما له يضيّع الصلاة؟ وانظروا إلى الأب كيف لا يزعجه أن ابنه تارك للصلاة، ربما ينتظر حتى يكبر ليصلي!!! كما يصرح كثير من الآباء الغافلين، وانظروا إلى الأم التي لا يزعجها أن ابنتها لا علاقة لها بالصلاة بينما هي لا تترك السجادة؟ بيوت اجتمعت فيها التناقضات الغريبة، أولياء يحافظون على الصلاة وأبناؤهم تاركون لها، وهذا لا يحرك فيهم ساكنا، وهناك ما هو أدهى: بيوت مسلمة لا علاقة لأهلها بالصلاة، لا الكبار ولا الصغار… إن هؤلاء الأبناء مشاريع ملحدين ومنحرفين، لم يؤدبهم دين ولم تصقلهم صلاة، فلا شك أن الأيام ستوردهم موارد الردى ويجذبهم عالم الخمور والمهلوسات والمخدرات والجرائم والفساد بمختلف صوره وأشكاله…إن من أغرب ما أسمع في حياتي – وكثيرا ما أسمعه – أن أحدهم يثني على شاب – قد يكون من تقدم لخطبة ابنته – فيصفه بأبهى الأوصاف: إنسان طيب، خلوق، لا يؤذي أحدا، لا يصلي فقط (لاحظوا: «فقط»)قلتُ: « إذًا هذا ڤاوري ناس ملاح «… لم تعد الصلاة مقياسا للصلاح بل أصبحت مسألة هينة، رغم أن من ضيعها فهو لغيرها أضيع كما قال العارفون وكما يؤكد الواقع، وهذا قرة عين العلمانية اللادينية التي تدندن حول «الحرية الشخصية» إلى درجة التقديس، وذكرني هذا بما حدث مع محمد أركون في سنة 1983 حين استضافه مسجد باريس لأول مرة لإلقاء محاضرة، وفي أثناء النقاش سألوه لماذا لم نرك ولو مرة في المسجد رغم أنك تسكن بالقرب منه؟ فأجاب: «الصلاة مسألة شخصية».
يا تارك الصلاة ربما تنتظر يوما قريبا فتغتسل وتصلي؟ من قال لك إن الموت لن يعاجلك قبل أن يأتي ذلك اليوم؟ ألا ترى الناس الأصحاء يموتون بالسكتات القلبية والحوادث المختلفة؟ ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم الرجل المعلق قلبه بالمساجد أي بصلاة الجماعة، أليس عيبا أن يكون قلبك معلقا بفيسبوك والهاتف المحمول وكرة القدم ولا يتحرك للأذان ولا يتلذذ بالصلاة؟ لا شك أنك تشكو مثل كل الناس الضيق النفسي والقلق وstress وتنشد الراحة النفسية وهدوء البال، ألا تعلم أنه لا علاج لأمراض العصر هذه مثل الصلاة؟ فيها تجد السكينة والطمأنينة لأنك بين يدي ربك تكون في خشوع ينقلك نقلا بعيدا من ضغط الدنيا إلى رحابة الإيمان والتقرب من الملأ الأعلى، في محراب الصلاة تجد حلاوة المناجاة ويغمرك فيض الرحمات الإلهية… جرّب نقل الخُطى إلى المساجد، عش تجربة الركوع والسجود، استمتع بالتلاوة والذكر والدعاء في مدرسة الصلاة وستفهم لماذا حرص عليها الإسلام كل هذا الحرص ولماذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يردد «أرحنا بها يا بلال»، يكفي أن العبارة الأكثر ترددا على لسانك وأنت تصلي هي «الله أكبر»…أكبر من الدنيا والمادة والأذى وكل ما يمكن أن يضغط عليك أو يصيبك، إنها تعلمك فن الالتجاء إلى الله بيقين وثقة فتخرج منها كبيرا صامدا متجلدا، أتدري لماذا؟ لأنك جعلت من صلواتك زيارة متكررة لرب السماوات والأرض الذي يملك كل شيء ويتصرف في كل شيء فتجد عنده كل شيء ويمدك بما تريد، فكيف تعرض عنه وأنت العبد الضعيف الهزيل الفاني؟
وإذا كان ترك الصلاة مأساة دينية كبرى فإن هناك ظاهرة طفت على السطح في الآونة الأخيرة لا تقل عنها مأساوية هي عدم حضور الجمعة، يستطيع المرء أن يلاحظ كيف أن كثيرا من المحلات التجارية والمقاهي مفتوحة وقت الجمعة، وروادها كثر، السيارات في ذهاب وإياب عادي جدا، الشباب والمراهقون مع كرة القدم والبابي فوت وغيرها من الألعاب، لا يعبأ كل هؤلاء بهذه الشعيرة العظيمة، يعني لا يصلون أصلا ويجاهرون بذلك كأنهم ليسوا مسلمين… على من نبكي؟ على هذا الشاب الذي لا علاقة له بعماد الدين أم على أبيه الذي يذهب إلى الجمعة ولا يعنيه حال ابنه هذا؟
هذه هي المشكلة: هزمتنا العلمانية شعوريا إلى درجة أن الصلاة – وصلاة الجمعة – أصبحت مسألة شخصية لا دخل فيها لوالد ولا والدة ولا مربٍّ ولا مدرسة ولا إعلام، ومسؤولية تصحيح التصور والرؤية والمسار تقع بالدرجة الأولى على البيوت المؤمنة والمربين الرساليين.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com