وراء الأحداث

في ذكرى العلامة المفسر الشيخ محمد الأكحل شرفاء

أ. عبد الحميد عبدوس/

سبع سنوات مرت على رحيل العلامة المصلح المفسرالشيخ محمد الأكحل شرفاء الذي انتقل إلى رحمة اللّه تعالى في صباح يوم الأحد 18 ربيع الثاني 1436هـ الموافق لـ8 فيفري 2015 ، عن عمر ناهز 90 سنة بالتاريخ الميلادي، فهو- عليه رحمة اللّه- من مواليد 18 فيفري 1925 بقرية بني شبانة، من دائرة بني ورتيلان بولاية سطيف.
بعد سويعات على رحيل الشيخ الجليل محمد الأكحل شرفاء اتصل بي الصحفي حمزة نذير من القناة التلفزيونية الخامسة «القرآن الكريم» (هو حاليا رئيس تحرير في القناة التلفزيونية الثالثة «الإخبارية») وطلب مني الإدلاء بكلمة عن وفاة الشيخ شرفاء لحصة «ضحى القناة» التي كانت تبث مباشرة على المشاهدين ضمن برامج قناة «القرآن الكريم»، كان خبر وفاة الفقيد مازال ساخنا ومؤلما وفاجعا، فكان هذا الاتصال بمثابة سانحة أتيحت لي لأعبّر عن مدى تقديري لمجهودات الراحل في ميادين التربية والدعوة والإعلام مع استمرار وفائه لرسالة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين التي تتلمذ في مدارسها على يد مؤسسها ورئيسها الأول الإمام عبد الحميد بن باديس، فكان بمثابة الثمرة الطيبة لشجرة ابن باديس المباركة، إذ تشبّع منذ ريعان شبابه بمبادئ جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، فدافع بقناعة وبلاغة بقلمه ولسانه عن تاريخها وبرنامجها ورجالها، وناضل بجهده ووقته وماله في صفوفها وشعبها تحت الاحتلال، وبعد استرجاع الاستقلال.
لم يثنه اختيار السلطة الحاكمة بزعامة الرئيس الراحل أحمد بن بلة لمنهج الأحادية ونظام الحزب الواحد الذي ترتب عليه منع جمعية العلماء المسلمين الجزائريين من الوجود الرسمي في الساحة الوطنية بعد استرجاع الاستقلال وتعطيلها عن مواصلة دورها التربوي والدعوي والإصلاحي، فالشيخ محمد الأكحل شرفاء واصل مساره الدعوي ونضاله الفكري وقام مع كوكبة من المثقفين الوطنيين الأصلاء بتأسيس جمعية «القيم الإسلامية» التي خرجت إلى الوجود في 9 فيفري1963 وكان هدفها الرئيسي ـ حسب رئيسها المرحوم الدكتورالهاشمي تيجاني ـ: « ملء الفراغ الذي تركته جمعية العلماء المسلمين لكن أيضا القيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتنوير العوام بأركان دينهم وجلال أعمال سابقيهم وإيقاظ المثقفين من أبناء ملتنا» ومن أبرز مؤسسي هذه الجمعية الدينية الثقافية التي لم تعمر طويلا، الدكتور الهاشمي تيجاني، والدكتور زهير أحدادن، والسيد عباس تركي، والدكتور عمار طالبي، والدكتوررشيد بن عيسى، والدبلوماسي مختار عنيبة، والشيوخ عبد اللطيف سلطاني، ومصباح حويدق، ومحمد العرباوي، وأحمد سحنون ،وعباسي مدني…الذين شكلوا طلائع المواجهة الفكرية مع تيارات التغريب الفكري ومجموعات الاستلاب الحضاري والمسخ اللغوي التي كانت تدافع عن الإرث الاستعماري في اللغة والفكر والقيم الحضارية.
كان العلامة الراحل الشيخ محمد الأكحل شرفاء من أركان جمعية العلماء المسلمين الجزائريين ومن نجوم الدعوة الإسلامية في العالم الإسلامي، إذ كان متألق الحضور في ملتقيات الفكر الإسلامي بالجزائر، وملتقيات الدروس الحسنية بالمغرب، وكان يشد الأنظار بمظهره الأنيق، ويطرب الأسماع بفصاحته التي أثارت إعجاب وثناء فارس البيان العربي الشيخ العلامة محمد البشير الإبراهيمي رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين الذي زاره في أربعينيات القرن الماضي في قرية بني شبانة، مسقط رأس الشيخ محمد الأكحل شرفاء وعرينه الإصلاحي.
من ذكرياتي الراسخة عن فقيد الجمعية والجزائر صورة إشراق السعادة التي غمرت وجه الشيخ شرفاء عندما كنا في زيارة رفقة العلامة الراحل الشيخ عبد الرحمن شيبان الرئيس السابق لجمعية العلماء إلى ولاية برج بوعريريج وقرر حينها السيد عبد الرحمن كاديد الذي كان ـ آنذاك ـ واليا لولاية برج بوعريج إعادة مدرسة «التهذيب» الحرة إلى حوزة جمعية العلماء المسلمين، هذه المدرسة التي أصبحت اليوم تسمى مدرسة «الشيخ عبد الرحمن شيبان» هي المدرسة التي درس فيها الشيخ محمد الأكحل شرفاءكما تولى إدارتها وهوفي ريعان شبابه في سنة 1953، عندما كان عمره لايتجاوز28 سنة.
وللتذكير فإن العلامة الشيخ محمد الأكحل شرفاء هو من مواليد 18 فيفري 1925 ينتمي إلى عائلة علم محافظة فجده هو العالم الصوفي الشيخ السعيد البهلولي شرفاء، حفظ الفقيد جزءا من القرآن الكريم على والدته ثم أكمل الحفظ على عمه الشيخ محمد السعيد شرفاء فختم حفظ كتاب الله العزيز وعمره 13 سنة، ثم التحق بدروس الإمام عبد الحميد بن باديس بالجامع الأخضر بقسنطينة في أواسط ثلاثينيات القرن العشرين، وبعد وفاة أستاذه الإمام ابن باديس واصل تعليمه على يد الشيخ العلامة مبارك الميلي.
سافر الشيخ محمد الأكحل شرفاء سنة 1947 إلى تونس لمواصلة الدراسة بجامع الزيتونة، وبتونس ساهم في الحركة الإعلامية بمقالات في جريدة «الأسبوع». وبعد عودته إلى الجزائر سنة 1949 عين مديرا بمدرسة إيغيل النصر بأقبو ومكث هناك 4 سنوات، وأثناء عمله بهذه المدرسة تعرض عدة مرات لمحاكمات ظالمة من السلطات الاستعمارية، لتدريسه اللغة العربية دون رخصة، وحكمت عليه بالسجن وبالغرامات المالية، وفي سنة 1953 عين مديرا لمدرسة «التهذيب» ببرج بوعريريج، ، ثم انتقل في سنة 1955 إلى مدرسة الإحسان بالقليعة، وبعد استرجاع الاستقلال ظل الشيخ شرفاء من أعمدة المدرسة الجزائرية الأصيلة فواصل مهمته التربوية كأستاذ في كبريات ثانويات العاصمة،كثانوية عقبة بن نافع بباب الوادي، وثانوية ابن تومرت ببوفاريك، وثانوية وريدة مداد بالحراش، وثانوية الثعالبية بحسين داي، ثم مكونا للمعلمين بالمعهد التربوي بابن عكنون ،وفي سنة 1986 انتدب إلى وزارة الشؤون الدينية بصفة مفتش عام ، وأحيل على التقاعد في السنة نفسها. كان الشيخ رحمه اللّه من نجوم الدعوة الإسلامية الرشيدة بدروسه الدينية الجذابة في عدد من مساجد الجزائر، كما كان من أبرز خطباء نادي الترقي بالعاصمة، وقضى شطرا من عمره مفسرا للقرآن الكريم بالنادي، وبالإضافة إلى ذلك لم يتخل عن نشاطه الإعلامي الذي مارسه قبل الاستقلال في الجرائد التونسية ثم في الجرائد الجزائرية وعلى رأسها جريدة البصائر لسان حال جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في سلستها الثانية في خمسينيات القرن الماضي في ركن الوعظ والإرشاد ، ثم بعد الاستقلال محررا للركن الأسبوعي «هذه سبيلي» في السلسة الثالثة للجريدة ،كما كان ركنه الأسبوعي في جريدة «البصائر» في سلسلتها الرابعة تحت عنوان «في رحاب القرآن» من أهم أركان الجريدة، وظل حريصا على تحريره إلى أن اضطره المرض إلى الانقطاع عن الكتابة، ما جعل القراء يتساءلون عن اختفاء ركن «في رحاب القرآن» وكان الكثير من القراء يراسلونني (أنا كاتب هذه السطور) باعتباري مدير تحرير البصائر سواء عن طريق الكتابة أو الاتصال الهاتفي للاستفسارعن سبب توقف ركن الشيخ شرفاء ويطالبون بعودته إلى الجريدة وبالإضافة إلى نشاطه في الصحافة المكتوبة، كما كان يقدم دروسا دينية في التلفزة الوطنية.
أتذكر أنه في الأسبوع الأول من شهر ربيع الثاني 1430هـ الموافق لشهر مارس 2009م، كرمت مؤسسة «الشروق» الشيخ محمد الأكحل شرفاء في حفل بهيج، وألح علي فضيلة الشيخ الراحل للمشاركة بكلمة في فعاليات حفل التكريم، فكان مما قلت، وقد نشرت في جريدة «البصائر» في حينها، ما يلي: «إن فضيلة الشيخ (شرفاء) يمتلك تلك الميزة النادرة التي تؤهل أصحابها لترك بصماتهم في مجرى التاريخ، وتلك الميزة هي- في تقديري- اعتناق قضية ما والدفاع عنها والوفاء لها مهما كانت الظروف والعقبات، ومنذ أن تعرفت على فضيلة الشيخ شرفاء وفي ما قرأته عنه قبل تعرفي الشخصي عليه، تأكدت أنه حامل لأشرف وأكرم قضية يسخر لها الإنسان المسلم مواهبه وجهده ووقته، فالشيخ شرفاء (ومنذ أربعينيات القرن الماضي) وهو يدافع باللسان والقلم، وبالوجدان والعقل عن الإسلام ولغة الإسلام وقيم الإسلام، هذه القضية الشريفة السامية أهلته لنيل إعجاب الناس، فظل بمثابة المصباح الذي يضيء باستمرار ولا يقبل الاحتراق».
في سنة 1991بعد ترسيم مسارالتعددية الحزبية والجمعوية في الجزائر، ساهم الشيخ الراحل محمد الاكحل شرفاء في إعادة بعث جمعية العلماء المسلمين الجزائريين التي جمد نشاطها في سنة 1962 بعد استرجاع الاستقلال الوطني، فكان مع كوكبة من علماء الجزائر، منهم الشيخ أحمد حماني والشيخ علي مغربي والشيخ عبد الرحمن شيبان والشيخ إبراهيم مزهودي والشيخ محمد الصالح رمضان، و الشيخ عمار مطاطلة ـ عليهم رحمة اللّه ـ من قادة المكتب الإداري للجمعية ، وفي سنة 1993 عند انعقاد المؤتمر التجديدي لجمعية العلماء، انتخب عضوا بالمكتب الوطني لجمعية مكلفا بالدعوة والإرشاد، وفي المؤتمر الثالث للجمعية سنة 2008 انتخب الشيخ شرفاء نائبا لرئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين ، ثم أعيد انتخابه بعد رحيل سماحة الشيخ عبد الرحمن شيبان سنة 2011، نائبا للرئيس الجديد للجمعية الدكتور عبد الرزاق قسوم ، وأصبح رئيسا شرفيا للجمعية بمعية الشيخ عمار مطاطلة ـ عليهما رحمة الله ـ وهو المنصب الذي احتفظ به إلى أن تغمده اللّه برحمته في سنة 2015.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com