في رحاب الشريعة

واقع العالم العربي بين الدعوة الإسلامية والسياسة التقليدية/ محمد مكركب

واقع العالم العربي لا يبشر بخير رغم التفاؤل الذي يوصي به ديننا، ونتحلى به في قيمنا، ذلك للعطب الذي أصاب بوصلتي الدعوة والسياسة معا، ووقع الانحراف الخطير في المضي قدما نحو الطريق المسدود من قِبل الساسة وكثير من الدعاة، وكأن فيروس التخريب قد اخترق شبكة الدعوة والسياسة معا في العالم العربي، ودمر المعالم الهادية، وطمس منافذ الرؤية الكافية، فاضطرب القطار، وحاد عن مساره.

فعلى أي حال من أحوال الضعف والهوان تقف الأنظمة السياسية العربية خلال السنوات الأخيرة؟ -وإلى حين كتابة هذه الكلمات، (ربيع الأول.1439هـ) على شفا- حفرة من الدسائس التي تطبخ في مطابخ أجنبية بأيدي ورؤوس غبية من البلدان العربية، قد تؤدي بهذه الشعوب إلى المزيد من التأزم والتألم، في حين كان الأصل أن نتوجه نحو الرقي والتقدم.

ولو التقينا ولممنا شملنا، وجمع حكامنا علماءنا وتشاورنا في شؤوننا بعلم وصدق وإخلاص، لخرجنا من ضيق ما يحزننا إلى فضاء ما يسعدنا، فما هذه الغفوة التي أصابت سياسة الأنظمة خارج النظام؟ وما هذه السكرة التي هزت كيان الدعوة الحالمة خارج الحلم والأحلام؟ فأين تعاون الخليج بهدوئه في ساحات خيامه؟ وأين شموخ الحجاز في أكناف الحرم وجواره؟

فلا الشام صحا واستقام، ولا العراق عاد إلى نهج السلام، ولا اليمن اعتبر بالركن والمقام، وحبنا لإخواننا في هذه البلدان يدفعنا ولو بالدعاء لهم بالانتصار على نزغ الشيطان، والرجوع إلى مائدة القرآن في شهر الأنوار، ليعود العالم العربي إلى رحاب الحب والتعاون والتآخي، والأمن والاستقرار.

لماذا انقلبت الموازين والمصطلحات؟ وتمردت الكلمات على قواميس اللغة وفقه المشتقات؟ فكلمة التعاون بين الأشقاء كأنها استبدلت بالتلاعن بين الأشقاء…! وكلمة التطاوع، تحولت إلى التقاطع…! ومن الدعوة إلى الاقتصاد والإعمار صار البعض يدعو إلى المقاطعة والحصار؛ إنه فيروس خطير حول القطار من طريق الجنة إلى طريق النار، ونسأل العفو والعافية من العزيز الغفار.

لقد انفرط العقد السياسي والمنهج الدعوي في العالم العربي، لأن الآمال العربية كانت مبنية على مجرد الكلمات بغير دلالاتها، وكان التخطيط مجرد تمني الغايات بغير الإعداد لها، فلما انحرفت الكلمات ضاعت معها الآمال والأمنيات.

قال محاوري: هل بلغت الغفلة بالمتسببين إلى هذه الحال من المحال؟ وهل بلغ الأمر بالدعاة المختلفين المتفرقين، والحكام السياسيين المتنازعين إلى درجة من السذاجة والغفلة أنهم لا يميزون بين ما يضرهم وما ينفعهم؟ ولا يميزون بين أعدائهم وإخوانهم؟ لا يفرقون بين السواد والبياض؟ حتى حارب بعضهم بعضا، وتركوا شياطين الإنس والجن يتآمرون على رؤوسهم وكثير منهم في غبائهم نائمون؛ ثم هل يسمعون ويعود الحكام إلى سياسة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وهل يعود الدعاة إلى وحدة الجماعة التي أمر بها خاتم النبيين؟

قلت: كانت مهمة الأنبياء والرسل – عليهم الصلاة والسلام- التبليغ والنصح، ولازالت وستبقى مهمة العلماء الحكماء التبليغ والنصح، فنشير بما نراه واجبا علينا تبليغه سمع من سمع وقبل النصيحة، وترك من ترك واستسلم للفضيحة. إننا متيقنون من أن الله تعالى يحب التعاون بين المؤمنين فندعو إليه، ويكره التباغض والتقاطع والتدابر فننهى عنه، إننا ندعو إلى ما دعا إليه الله سبحانه وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم.

أَيُعْقَل أن يتعاون المسلمون على مقاطعة المسلمين؟ ولا يتعاونون على تحرير فلسطين؟ أيعقل أن تنتشر العداوة والخصومات بين المؤمنين ويُظْهِر بعضهم الصداقة والتطبيع والتحالف مع أعداء الدنيا والدين؟ ثم بعد ذلك تقول لي: هل يسمعون أولا يسمعون؟

ومع هذا فإنني أتفاءل كما أنك تتفاءل معي بأن علماءنا وحكامنا يسمعون النصيحة، ولا يرضون لأمتهم الفضيحة، ويستجيبون لله وللرسول حيث دعاهم لما يحييهم، ولما يحقق آمالهم ويرضيهم، فلا تغرهم المناصب الدنيوية، ولا المكاسب الحطامية، ولا يرضون لشعوبهم أن تتفاقم عليهم المآسي وهم منشغلون بحب الكراسي.

قال محاوري: والحل؟ قلت: أمازلت أنت وغيرك لم تعرف الحل؟ لعلك قرأت في البيان عن أسباب نزول القرآن، أنه لما أنزل الله تعالى:﴿وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ [البقرة:284]، اشتد ذلك على أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلم َ فأتوا رسول الله فقالوا: كُلِّفنا من الأعمال ما نطيق: الصلاة والصيام والجهاد والصدقة، وقد أنزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها فقال صَلى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلم: أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم ﴿سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا [النسآء:46] قولوا:﴿سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا [البقرة:285]، (فلما قرأها القوم وجرت بها ألسنتهم أنزل الله تعالى:﴿لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكتسبت[البقرة:286] قال: ما معنى هذا؟ قلت: إذا قالوا لله تعالى، ولرسوله عليه الصلاة والسلام: سمعنا وأطعنا، وعملوا بما أمرهم، إذا فعلوا ذلك نصرهم الله على دسائس العدو، وعلى التخلف؛ قال محاوري: تعني أنه لما قال الله تعالى:﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران:103]، أنهم يعملون بالقرآن ويتحدون؟ قلت: ولم لا؟ قال: إلا هذه لا يسمعونها ولا يستجيبون. قلت: لماذا؟ قال: لأنهم مؤمنون بالقرآن نظريا وليس عمليا، أما تراهم مصرون على أن لا يحرموا كثيرا مما حرم الله تعالى: يعملون بالربا علنا، ويبيعون الخمر عيانا، ولا ينهون تارك الصلاة، ولا يلزمونه بالصلاة، ولا يقيمون الحدود، ولا…ولا…

قلت: لا عليك، ورد في الأثر: صنفان من أمة محمد عليه الصلاة والسلام إذا صلحوا صلح المجتمع، وإذا اختلفوا خرب المجتمع، وهما: العلماء والأمراء. فلن يستقيم أمرُ الأمة وعلماؤها منقسمون، وحكامها متخاصمون، وأعداؤها متآمرون، وأهل الاختصاص والحكمة من أبنائها مُهَمَّشون مبعدون، وشبابها في البطالة والفوضى غارقون.

لقد قفز عدو المسلمين مُحَسِّنًا مرتبته العدائية من سياسة فرق تسد، إلى سياسة أوقد فتنة بين المسلمين تكسب خضوعهم وأموالهم وأرضهم بإرادتهم…! وقال شيطان الإنس لشيطان الجن: نَسِّهِم في قيم دينهم، كَرِّهْهم في لغتهم وافرض عليهم مناهجك ولغتك كي يخدموا فكرتك. وهكذا وقعت السياسة العربية المريضة في قبضة لعبة الاستدمار الجديد، وصارت بعض الشعوب الإسلامية خادمة لغير المسلمين من حيث لا يشعرون، بعد أن هجروا قيمهم، ومجدوا لغة عدوهم، وقطعوا صلتهم بإخوانهم.

الثابت في التاريخ أن الحقب الزمانية التي ازدهرت فيها حياة المسلمين هي الأزمنة التي فتح فيها النظام السياسي {الخليفة أو الملك أو الرئيس} أبواب التسيير ومناصب القرار والتدبير، لأهل العلم والتفكير. والنموذج التاريخي (على سبيل المثال) للتعاون بين نظام الحكم وأهل العلم والخبرة، هو: بداية العهد الأندلسي بسبب تضافر جهود العلماء والأمراء كيف صارت الأندلس عاصمة العالم الحضارية، وفي عهد عمر بن عبد العزيز، وهارون الرشيد. ولما رجعت سياسة الانسداد إلى القهر والتهميش والاستبداد، ضاعت الأندلس وضاعت غرناطة وقرطبة، ثم ضاعت الخلافة، وانقسمت الأمة وحلت الغمة، أفلا يعتبرون؟ أفلا يتعظون؟ أفلا يستحيون؟

فعلى الحكام في البلدان العربية، وقبل فوات الأوان، أن يقدموا أهل العالم والاختصاص، وأن يوظفوا قيمة الشورى العلمية، وأن يستشيروا العلماء الحكماء ودون الاكتفاء بالمستشارين المقربين، وأن يقدموا الطاقات والقدرات من قبل كثير من الشباب الواعي المثقف، كل واحد فيما يسر الله له. فإن الاستمرار في سياسة التقليد، وحلول الترقيع والتضميد، والتهميش والتقييد، قد يُبْعِد الأمة عن الوعد ويوقعها في الوعيد. قال تعالى:﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ [النور:55]، والحمد لله رب العالمين.

 

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com