استراتيجية التكييف/ منصف بوزفور
لقد كان الدكتور محمد عابد الجابري -رحمه الله- من بين المنشغلين الحيويين بثقافة الاختراق، باعتبارها أيديولوجيا العولمة، منتبها إلى الأوهام التي قدمها المثقف الأمريكي لدعم سياسة بلاده في قيادة العالم بعد السقوط الشيوعي.
ويجب أن نذكر هنا أن استراتيجيات التكييف، وبرامج العولمة كانت تهدف من البداية إلى هيكلة اقتصاديات الدول النامية من منظور خبراء الدول المتقدمة والنخب التابعة لها، بشكل يساعد
على التخفيف من حدة المشكلات التي تعانيها البلدان المتقدمة.
واليوم فإن البلدان النامية تعاني من أزمة حضارية شاملة (اقتصادية وسياسية واجتماعية وثقافية)، ويظهر أن سياسة الإصلاح الذي يفرضه اقتصاد السوق، لا يتوقع نجاحه، فالأزمة كما يبدو شاملة، ولا يمكن التخفيف من حدتها بالحلول الجزئية الارتجالية المتغيرة بشكل مستمر. ونحن نعلم بأن الإجراءات السياسية التي تتضمنها البرامج الليبرالية تعبر عن طريقة معالجة المشكلات الاقتصادية التي تعيشها البلدان المتقدمة في إطار النظام الرأسمالي الذي هو انعكاس لأعمال المبادئ والأصول المذهبية للرأسمالية في الواقع؛ وهذه الأخيرة وليدة التطور الحضاري للمجتمع وفلسفته في الحياة ونظرته للوجود.
وهذه البلدان المتقدمة هي اليوم في صراع مع اقتصاد السوق، بحيث أن هذا الاقتصاد لم يعد تتحكم فيه دولة من الدول دون أخرى، بل إن مشاكل الدول الثمانية الصناعية ستبرز أكثر فأكثر، مما يحول العالم إلى أن يترتّب وفق ترتيب الدول المتحكمة في اقتصاد السوق.
لا ريب أن هناك صراعا بين ثقافة العولمة وبين الثقافات المحلية، فهناك اليوم تحد للاستسلام والتسليم لدى كثير من الثقافات المحلية، ومنها الثقافات العربية الإسلامية. لكن نفس هذه الثقافات المحلية تلاقي ظواهرا من الانحلال والتفكك في مقابل ظواهر للمقاومة، وفي العالم العربي حسب “برهان غليون” لا نزال على مستوى الحركة العامة الغالبة والظاهرة، أي لم نتجاوز بعد مرحلة الرد الاحتجاجي على صعود ثقافة الهيمنة والعولمة، التي تهدد بتهميشنا التاريخي، وبتهميش ثقافتنا، أو تخفيضها إلى مستوى الثقافات غير الناجعة والفاعلة في الحضارة؛ ويظهر جليا أن ثقافتنا الجديدة لعصر العولمة أصبحت ترتكز على المرجعية الإسلامية. وبغض النظر عن التوظيف السياسي، وما أدى هذا التوظيف من آثار وخيمة سيئة انعكست على الدين نفسه فقام ما يسمى بـ”الإرهاب”، واجترحت شعوبا عربية في صميمها، وقامت ادعاءات ضد الإسلام. واعتبرته دينا إرهابيا، وظهرت نماذج من الهيمنة الشمولية، وقامت في المقابل نماذج للمقاومة.
ولو عدنا إلى المثقف في الوطن العربي نرى أنه استطاع في حالات كثيرة التأثير في التفكير العام في بلاده، لكن كان عليه أن يواجه عددا هائلا من الضغوط لا حصر لها، منها القديم ومنها الجديد.
ويظهر أن شيوع الاستبداد السياسي و”الإرهاب الفكري” في كثير من المراحل، وفي كثير من البلاد العربية في تاريخها الحديث، وانتشار الأمية، جعل المثقف والمفكر محدود التأثير.