في رحاب الشريعة

مرتبة التمام والإحكام ثانية مراتب الإحسان في إنجاز المهام

أ. محمد مكركب/

 

لقد تم البيان أن المرتبة الأولى من مراتب الإحسان هي مرتبة المسالمة، أي عدم إيذاء المخلوقين لابالقول ولا بالفعل، فالمحسن مسالم، قد سلم المسلمون من لسانه ويده. وأما المرتبة الثانية من مراتب الإحسان، فهي: مرتبة التمام والإحكام. إن أول ما يدخل المؤمن المسلم رحاب الإحسان يتعهد مع نفسه أمام الله تعالى بأنه لا يؤذي أحدا، فلا يستهزئ بالناس، ولا يسخر منهم، ولا يغتاب أحدا، ولا يتكلم في إنسان بما لا يرضاه لنفسه، لا بالسب ولا بالاتهام. لا يطلق العبد العاقل لسانه، ولا يده، ليقول أو يكتب، أو ينشر، مالا يرضاه لنفسه. هذا هو قانون ميزان الشرع في هذا الباب، أي لكي يعلم المسلم العاقل: هل ما يقوله في الناس حسن أم قبيح، فلينظر فيما قال فإذا كان ما قاله في غيره لو كان فيه، ينفعه ويرضاه، ثم لو قيل له ذلك يُسْعِده ويتمناه؟! فليقله. أما إذا كان ما يقوله في غيره وما ينشره عنهم في الفاسبوك لايرضاه لنفسه، فليعلم بأنه تائه في ضلال الفسوق والعصيان، بعيد عن رحاب الإحسان.
فإذا تحكم المسلم في نفسه وارتقى المرتبة الأولى وصار لا يعامل الناس إلا بما يحب أن يعاملوه به. فيقال له: أهلا وسهلا في المرتبة الثانية، وهي مرتبة التمام والإحكام، ومعنى هذه المرتبة الثانية: أن المحسن لا يقصر في عمله عن عمد، ولا ينقص من واجباته شيئا عن عمد، فالمحسن يقوم بإنجاز المهام بالتمام والإحكام، في أي وظيفة وفي أي مسؤولية كان. معنى هذا أن المحسن حقا مسالم أمين لايؤذي أحدا، بموجب ضوابط المرتبة الأولى، ثم إذا قام بعمل، أتمه على الوجه المطلوب، وأنجزه بإحكام كما هو المقتضى والمرغوب. فالمحسن مخلص، متقن، لايقصر ولا يهمل، فالمجتمع الذي يتألف من مسالمين في كل علاقاتهم وتواصلهم مع غيرهم، ويُتِمُّون أعمالهم بالإحكام والتمام، لاشك أن هذا المجتمع يكون متحضرا، ويقيم مدنية إنسانية عظيمة.
والقاعدة الأولى من قواعد التمام والإحكام {علم مقتضيات المهنة} أو فقه المهمة أو المسؤولية. وبمصطلح العصر الفقه التام لقانون الحقوق والواجبات والشروط والضوابط الخاصة بالعمل المطلوب، أي فقه الأمانة المكلف بها. ومن قديم ضرب العلماء مثلا توضيحيا في فقه الطاعة، وهو قولهم: كيف يطيع العبد ربه سبحانه وتعالى، إذا لم يكن يعلم ما هي الواجبات التي أُمِر بها، وماهي المنهيات التي نُهِي عنها. فمثلا كيف يستطيع رئيس بلدية القيام بمهامه بالتمام والإحكام مائة بالمائة؟ يتم ذلك بالخريطة المحكمة التي قوامها قانون البلدية والدستور، وقيم المجتمع، وعلم الواقع على مستوى البلدية.
بوضع بيانات إحصائية دقيقة لكل المصالح والضروريات، بعدد ما يحتاجه السكان من المساكن، والمدارس، والسدود، والمشافي، والطرق، والحرف، ومناصب العمل، كي لا تمر سنة على رئيس البلدية حتى يكون قد قام بكل ما يحتاجه المواطنون في البلدية. وبحيث يكون معلوما لدى رئيس البلدية كل كبيرة وصغيرة مما يحتاجه سكان بلديته.
حيث يعلم من باب الإحصاء عدد كل المتزوجين، على مستوى إقليم البلدية، وفي علم منطق الحياة المجتمعية أن كل متزوج من حقه أن يكون له مسكن خاص بأسرته. ومن باب الإحصاء أيضا يعلم أن الأطفال الذين يدخلون المدرسة عددهم كذا، وأن لكل طفل مقعد للدراسة، وهكذا. وبهذا يستطيع رئيس البلدية أن يلبي كل الحاجات لأصحابها. أما العمل بدون علم مقتضيات المهنة فلا يثمر النتائج المرجوة.
{فعلم مقتضيات المهنة} هو أول قاعدة يعمل بها المسلم المحسن، ليستطيع القيام بمهامه على التمام والإحكام.
القاعدة الثانية من قواعد التمام والإحكام،. {الحرص على الإنجاز، وعدم التأجيل} ففي الحديث عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [المؤمن القوي، خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير احْرِصْ على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تَعْجَزْ، وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كان كذا وكذا ولكن قل قدر الله وما شاء فعل فإن لو تفتح عمل الشيطان] (مسلم: 2664).
القاعدة الثالثة: القيام بالواجب في وقته قبل أن يُطَالِب به أصحاب الحقوق، لأن الله تعالى أمر العاملين (بدءا من إمام الأمة وهو الخليفة أو رئيس الدولة، إلى أبسط عامل في المجتمع) أمرهم بأداء الأمانات إلى أهلها، في الزمان والمكان وبالتمام والإحكام، فتدبر هذا واعمل به أيها المؤمن. قال الله تعالى:﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا﴾ وكل وظيفة هي أمانة. وفي الحديث.[وَإِنَّهَا أَمَانَةُ، وَإِنَّهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِزْيٌ وَنَدَامَةٌ، إِلَّا مَنْ أَخَذَهَا بِحَقِّهَا، وَأَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ فِيهَا] (مسلم:1825).
القاعدة الرابعة: المسؤول المكلف بالمهام التي رضي بها، ويأخذ عنها أجرة، قد تفوق حقه عند كثير منهم، فلا ينتظر الشكر من الناس، ولا ينتظر أن يراه الناس، بل يؤدي العمل في صمت، حتى تظهر الأعمال نفسها، هي التي تتكلم وتعرب عن صدق وأمانة ونزاهة من قام بها [أَلَا كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالْأَمِيرُ الَّذِي عَلَى النَّاسِ رَاعٍ، وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ، وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُمْ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى بَيْتِ بَعْلِهَا وَوَلَدِهِ، وَهِيَ مَسْئُولَةٌ عَنْهُمْ، وَالْعَبْدُ رَاعٍ عَلَى مَالِ سَيِّدِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُ، أَلَا فَكُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ](مسلم:1829).
القاعدة الخامسة: من قواعد إنجاز المهام على وجه التمام والإحكام{أن يكون الإنجاز مطابقا لتمام المواصفات القانونية والعلمية والشرعية} زائد الوفاء بالشروط والوعود ومن ذلك أن يسجل المسير والمدير والكاتب الإداري والمستشار، وكل عامل في كل المستويات، وكل مسؤول في كل المهام، أن يسجل يوميا نوع العمل الذي قام به مع التأصيل القانوني والشرعي، وكيف أنجز، وكيف كان أداء الأمانات إلى أهلها؟؟ وأين استهلك وقت العمل؟ قبل أن يقف أمام الله يوم القيامة ويسأل عن عمره فيم أفناه؟؟؟. فعن أبي برزة الأسلمي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:[لاَ تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ القِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ، وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَ فَعَلَ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ، وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَ أَبْلاَهُ] (الترمذي:2417). فأين أعضاء المجالس من هذا الحديث؟؟؟ أين واجبهم أمام الأمة؟ كل واحد منا يجب أن يصارح نفسه هل خدم الأمة بموجب مهامه الرسمية؟ هل أدينا ما علينا حقا وصدقا وبالتمام والإحكام؟؟ هل نحن جاهزون للحساب يوم الحساب، يوم لاتنفع الحيل والمراوغات.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com