آلاف الــمدارس… نســـاء مثـقـفـات… حافظـــات القــرآن.. ونَسَّاخات…
التعليم في الجزائر العثمانية

فوزي سعد الله */
عندما تبتعد قليلا عن التاريخ الاستعماري وتستنطق الأرشيف الجزائري – العثماني بشأن أوضاع النساء في الفترة السابقة لاحتلال الجزائر، أيْ ما قبل سنة 1830م، ستكتشف دون أدنى شك حقائق اختفتْ تقريبا بشكل كامل من الذاكرة الجماعية الجزائرية منذ دخول عَسْكر الجنرال دوبورمونت مدينة الجزائر حتى أصبحتْ هذه الحقائق اليوم شبه مجهولة.
من بين ما يؤكده الأرشيف عن نسائنا، وهو مشتت بسبب الاحتلال بين الجزائر وفرنسا، أن التعليم، عكْس ما تقوله الدعاية الاستعمارية ومُرَدِّدُوهَا، كان متاحًا في بلادنا للبنات كما للبنين، على الأقل في الطور الأول الابتدائي، حسب مقدرة المدُن والقرى. تشهد على ذلك، على الأقل، اللوحات الفنية التي رسمها الفنانون الأوروبيون عن الكتاتيب في مدينة الجزائر العثمانية خلال السنوات الأولى للاحتلال في ثلاثينيات القرن 19م.
وإذا كانت البنات غالبا ما ينقطعن عن الدراسة بعد هذا الطور التعليمي فإن ذلك يعود لتفرغهن للحياة العائلية، نظرا لزواجهن الذي كان يتم آنذاك مبكرا وفي غالب الأحيان بمجرّد البلوغ.
مع ذلك، قد تستفيد فتيات العائلات الميسورة والبيوتات العلمية من حظ أوفر من التعليم حتى وهن ربات بيوت وأمهات مثلما كان يحدث في كل البلاد الإسلامية، من قرطبة إلى سمرقند مرورا بالمغرب الإسلامي وبلاد السودان الغربي (مالي والنيجر) ومصر والشام وبلاد فارس وخراسان… وَنَعْرِف مِن مختلف المصادر التاريخية الجزائرية التي تعود إلى الحقبة العثمانية وبدايات فترة الاحتلال أن شقيقة العالم أبو راس الناصري كانت تُلقب بـ: «رابعة العدوية» لسعة ثقافتها. كما نعلم أن إحدى زوجات العالم الحسين الورتلاني كانت نسَّاخة للكتب وأخرى حافظة لعدة كُتُب ورُبْع القرآن. وذكر أبو القاسم سعد الله في «تاريخ الجزائر الثقافي» أن أحد وكلاء الحرج، أي القائد الأعلى للقوات البحرية وهو من أعلى المناصب في الجزائر في العهد العثماني، من شدة حرصه على تعليم ابنتيْه اللغة العربية كلف بهذه المهمة مؤدبًا خاصا فتعلمتاها، يضيف سعد الله، قراءة وكتابة، كما حفظتا ثلث القرآن وهما في الرابعة عشرة من العمر.
لكن ما مدى انتشار التعليم والمدارس في البلاد؟ الدبلوماسي الفرنسي دُوبْرِيفْ (De Brèves) (1560م – 1628م) قدَّر عدد مدارس مدينة الجزائر لوحدها بـ: «…100 مدرسة عامة وخاصة…»، على حد تعبيره، كان يتعلم فيها الأطفال ابتداء من سن الخامسة القراءة والكتابة والقرآن والحساب… وقدَّرها القنصل الأمريكي ويليم شيلر (William Shaler) بنحو 3000 مدرسة عبر كل البلاد موزَّعة بين الكتاتيب والزوايا والمساجد… أما الذين يطلبون المزيد من العلوم وبمستويات أعمق فكانوا يقصدون جامع الزيتونة والجامع الأزهر ومختلف كبار علماء بلاد الإسلام…
وماذا عن عمل النساء الذي ضَيَّعْنَا عقودا، على الأقل، من النقاش حول جوازه شرعًا من عدمه، فيما كان في الواقع هدرًا للوقت واستنزافًا للطاقات وتعميقا للخلافات المذهبية والشقاقات الإيديولوجية والسياسية بدون مبرر…؟ بدون مبرر، لأن التاريخ الإسلامي في الجزائر كما في غيرها عامر بنساء تاجرات ومديرات أعمال وحرفيات وعاملات في قطاع الخدمات، وما كان عمل النساء قضية أو مشكلة ينشغل الناس بالجدل العقيم فيها والخصام…
التاجرات… «ياسمينة» و «الأندلسية»…
يتحدث الأرشيف الجزائري، مثلما تَعَلَّمْنَا ذلك عن الباحث الممتاز خليفة حمَّاش، عن «ياسمينة التاجرة» حوالي 1699م/1700م المتغيّب (زوجها «السَّمّار») بسبب سرقة ادُّعيَ بها عليه»، وعن «تاجرة أندلسية»، صَادَفَتْهَا في الأرشيف هي الأخرى الباحثةُ اللامعة المرحومة عائشة غَطَّاس، وقد توفيتْ هذه التاجرة القادمة من «الفردوس المفقود» سنة 1619م مُخلِّفةً ثروةً بَلَغَتْ 59033 ريالا» في وقتٍ كان يعيش فيه مُتوسِّطُو الحال في مدينة الجزائر آنذاك بدخل شهري متوسط يُقدَّر بنحو 30 ريالا، حسب الباحثيْن المْنَوَّرْ مَرُّوشْ وخليفة حمَّاشْ.
المَاشْطَات، المْسَمّْعَات، المَدَّاحَات والشَّمَّاعَات: «عويشة الشَّمَّاعة».. «المعتقة»..و«روزة الجيجلية»
وبفضل غطاس أيضا، نعرف اليوم «عْوِيشَة الشَّمَّاعَة» التي اشتَغلتْ بصناعة الشُّموع في «المحروسة بالله» في العهد العثماني، و«مُونِي» «المَاشْطَة» و«شُوشَانْ المْسَمّْعَة»، اللتيْن خَدَمَتَا العائلات في المناسبات الاجتماعية والأفراح بالمدينة ذاتها، إلى جانب كلٍّ مِن «ملِيسَة المْسَمّْعَة» التي توفيتْ في 1815م و«الحاجَّة المْسَمّْعَة» التي فارقتْ الحياة قبلها في 1809م المذكورتيْن في «دراسة في ثروات النساء في مجتمع مدينة الجزائر في العهد العثماني» للباحثة ليلى خيراني. دون أن ننسى المدّاحات والمغنيات، اللواتي أحيين الحفلات في المجالس النسوية في الديار والبساتين كما في الحَمَّامَات، كَحَمَّام «الفْوِيطَة» وحَمَّام «السّْبُوعَة» (الأسُود) أو حَمَّام «سِيدْنَا»، بمناسبات الزفاف. ومن بينهن «المغنّية نفيسة المَدَّاحة» التي كانت تغني مع ضربها الدف أو النقر على الدَّرْبُوكَة، كالحاج منوَّر الذي كان لاحقًا في النصف الأول من القرن 20م يغني ناقرا على الطّرّ، وعازفة الكمنجة «فاطمة الكمنجة»، واللتين ذَكَرَهُمَا مَعًا نقلاً عن الأرشيف الباحثُ الإسرائيلي تال شوفال في كتابهLa ville d’Alger vers la fin du 18ème siècle, population et cadre urbain (مدينة الجزائر حوالي نهاية القرن 18م، السكان والإطار العمراني)… وقد توفيتْ كلٌّ مِن نفيسة المداحة وفاطمة الكمنجة في شهر مايو 1786م، وهي فترة كان الرايس حمِّيدو خلالها ما زال مراهقا في الخامسة عشرة أو السادسة عشرة من عمره يتعلَّم فن الإبحار والجهاد البحري…
وسجل لنا التاريخ الموثَّق في الأرشيف أسماء عديدة لمُمْتَهِنَات المدْح والغناء في مدينة الجزائر، من بينهن «البرَّانيات»، أي الوافدات على «بهجة» سيدي عبد الرحمن من جهات أخرى من البلاد وحتى مُعتّقات، وهُنَّ إِماء أعطاهن أسيادهن حريتَهن. وقد عثرت الباحثة ليلى خيراني في الأرشيف على العديد منهن مذْكورات بصفة «المْسَمّْعَة»، على غرار «فاطمة»، و»مسعودة» المتوفاة في 1818م، و«المْعَتّْقَة» المتوفاة في 1822م، و«عايْشَة» في 1826م، و«مريم» في 1827م، والمداحتان «فاطمة» و«فاطمة بنت يَمِينَة» في 1830م، و«رُوزَة الجيجْلِيَة» التي يذكر الأرشيف وفاتها بتاريخ سنة 1839م، و«عايشة الفرْطَاسَة» في 1840م… وبَيّنت تركاتُهن بعد وفاتهن أنهن كن عموما متواضعات الحال… وإذا كانت الوثائق نادرا ما تذكر ظروف وفاتهن، المسمعات والمداحات ومجمل النساء العاملات، ربما لكونها وفاة عادية وطبيعية، فإنها في حالة امرأة مجهولة الاسم مذكورة بعبارة «الولية» «الماشطة»، تقول ليلى خيراني في «المرأة في مجتمع مدينة الجزائر خلال العهد العثماني»، قد توفيتْ سنة 1832م في «السّْبيطارْ»، أيْ في المستشفى، ولو أن الكثير من الجزائريين ما زالوا يعتقدون، متأثرين بالتاريخ المُسَيَّسِ الاستعماري، أن الجزائر في العهد العثماني لم تَعرِف الطب والأطباء والمستشفيات، في حين تَضَمَّنَتْ مدينة الجزائر لوحدها 5 إلى 6 مستشفيات وأطباء جزائريين وأوروبيين، فيما لم يتجاوز عدد سكانها في أوْجِ ازدهارها الديمغرافي/ الاجتماعي الـ: 100 ألف إلى 120 ألف نسمة…
«الخُبَّازَات مْتاع الشوارع»…«عْوِيشَة الدَّلاَّلَة» و«مْعَلّْمَة حَمَّامْ الجُنَيْنَة» الزنجية…
كما خلَّد الأرشيف ذِكْر تلك النساء متواضعات الحال في بداية القرن 17م في مدينة الجزائر العثمانية اللواتي وصفهن بـ: «الخُبَّازات مْتَاعْ الشّوارع»، حسب عبارات الأرشيف التي نقلتها لنا عائشة غطاس في عملها الممتاز «الحِرف والحِرفيون بمدينة الجزائر في العهد العثماني 1700م – 1830م»، واللواتي تَحدَّثَ عنهن، تحديدا، قانون الأسواق في مدينة الجزائر الذي يعود إلى الحقبة العثمانية، بالإضافة إلى «عْوِيشَة الدَّلاَّلَة» التي توفيتْ سنة 1792م مُخَلِّفةً ثروةً حَدّدَها أرشيفُ التَّرِكَات بـ: 1518 ريالا وكذلك «نصرة الدَّلاّلَة» التي فارقت الحياة في شهر مايو 1788م، و«عْويشة بنت نضرة الدلالة» المتوفية في مايو هي الأخرى من سنة 1789م.
كل ذلك، فضلا عن نساء كثيرات اشتغلن كـ: «طيَّابة الحمَّام» و«مْعَلّْمَة الحَمَّام»، كتلك الزنجية التي كانت تُدير في ساحة الشهداء الحالية حَمَّام «الجُنينَة»، أيْ في حَوْمَة قصر «الجُنينة» أو «دار الإمارة»، والتي تُعرَف في الأرشيف بـ: «مْعَلّْمَة حمَّام الجُنيْنة» وتوفيتْ في أكتوبر/تشرين الأول 1802م، وكذلك «الولية سعادة» التي وُصفت في الأرشيف بـ«الطيابة» وفارقت الحياة سنة 1818م، مثلها مثل «مْبَارْكَة» التي تقول وثيقة تعود إلى 1821م إنها كانت هي الأخرى «طيَّابة»، فيما أشار الأرشيف إلى «الولِيَّة خَيْرَة» على أنها «غَسَّالَة»… وأخريات كنّ قابلات على غرار «الحاجَّة نَجْمَة القابْلَة المتوفاة سنة 1822م»، حسب ليلى خيراني صاحبة «المرأة في مجتمع مدينة الجزائر خلال العهد العثماني 1818-1830، دراسة مستقاة من مصادرأرشيفية»، والتي خَلَّفَتْ ثروةً لا بأس بها تُقدَّر بـ: 4959 ريالا، بالإضافة إلى «أمَةٍ وعَبْد» أوصتْ بعتقهما بعد وفاتها، أو «الزَّهْرَا بنت أحمد القابْلة» التي قُدِّرتْ ثروتها بعد وفاتها، تضيف ليلى خيراني، بـ: «5592 ريالا»، دون أن ننسى «مَرْيُومَة الإسْكافية» المتواضعة الحال التي لم تخلِّف أكثر من 1178 ريالا عند وفاتها في 1808م توضِّح خيراني في «دراسة في ثروات النساء في مجتمع مدينة الجزائر في العهد العثماني»…
وإذا عدنا بشيء من التفاصيل إلى التجارة، فإن المشتغلات بالتجارة الصغيرة والكبيرة لم يَكُنَّ حالات نادرةً أبدًا. وخَلَّدت وثائق الأرشيف الجزائري العثماني أسماء وصفقات العديد منهن، لاسيما النساء الأندلسيات والمنحدرات من أصل أندلسي، على غرار تلك التاجرة الأندلسية الثرية، زوجة ضابط عثماني برتبة «بُولُوكْ بَاشِي» (تقريبا نقيب بمقاييس عصرنا)، التي خلَّفتْ بعد وفاتها ثروة فاقتْ 59 ألف دينار، قرابة نصفها كانت مستثمرة في القطاع العقاري، حسب الباحث التونسي اللامع فريد خياري، فضلاً عن عدد هام من العبيد.
ويضيف لنا الأرشيف الجزائري العثماني أسماء أخرى كالتاجرة عن طريق وسطاء «عْوِيشَة بنت قَدُّورْ البَرْبْرِي» التي عَقدتْ صفقة لمشاريع تجارية بواسطة ابن عمها التاجر المعروف في «المحروسة بالله» «حسن بن محمد البربري» سنة 1819م برأسمال قدره 14 ألف ريال ، مع توضيح نص العقد المحفوظ في الأرشيف بأن «ما أفاد الله به من الربح بعد نهوض رأس المال يكون إنصافًا بينهما واعتدالاً…».
وعلى هذا النهج، سارت نفيسة بنت عبد الرحمن الشوفي بالتشارك بمالها مع مصطفى القزاز في استثماره بدكّانه، تؤكد عائشة غطاس، وأيضا حسنى بنت عبد الله محمد جلبي بن يوسف كخية الذي فشل في استثماره واضطر لرهن «الكوشة والفرن» لمُقرِضَته عندما عجز عن التسديد وانتهت ممتلكاته هذه المحاذية لباب الوادي لِحسنى بنت عبد الله بعد وفاته بحكم عجزه في حياته عن التسديد.
«موني بنت الحاج محمود»…ورجل الأعمال والدبلوماسي حمدان بن عثمان خوجة
وهل تعرفون مع مَن مارَسَتْ موني بنت الحاج محمود، ابنة «بهجة» سيدي عبد الرحمن، التجارة وعَقدتْ الصفقات الكبيرة؟ مع رجل الأعمال والسياسي/الدبلوماسي والكاتب والترجمان الشهير في عهد الداي حسين بن علي، آخر دايات الجزائر، حمدان بن عثمان خوجة صاحب كتاب «المرآة». ويذكر لنا خليفة حماش أيضا «آمنة بنت الحاج مصطفى جرادو الأندلسي» التي استثمرتْ بعض مالها في سفن الجهاد البحري حيث كانت تملك في منتصف القرن 17م (1071هـ) نصيبا في «سفينة بن رجب رئيس»…
كل هذه الأمثلة، وهي كثيرة، عن عمل النساء في الجزائر قبل الاحتلال تتعلق بمدينة الجزائر فقط، أما المدن والأقاليم الأخرى فلها أيضا تاجراتها وصانعاتها ومديرات أعمالها، في البليدة والمدية وشرشال وتلمسان كما في قسنطينة وغير قسنطينة من مدن الشرق الجزائري.
في المدية، على سبيل المثال لا الحصر، سجل لنا الأرشيف تشارك فاطمة زوجة خوجة الزّرع مع تاجر ميزابي برأسمال 1300 ريال مع اقتسام الأرباح مناصفةً….
القائمة ما زالت طويلة..جدًّا… لكن أعرف أنني أطلتُ، لذا، سأتوقف عند هذا الحد… أردتُ فقط التعريف ببعض ما زال غير معروف حتى في بعض الأوساط المتخصصة عن جزائرنا في العهد العثماني…لعل الضباب ينقشع عن بعض الأعين…ونقصد الأعين ذات النوايا الطيبة بطبيعة الحال…
* كاتب ومهتم بالتاريخ والتراث الوطني مقيم بباريس