في رحاب الشريعة

اللهــم اسقنـا الغيث ولا تجعلنا من القانطين/يوسف جمعة سلامة

يقول الله تعالى في كتابه الكريم:{وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ} (1 ) .

جاء في كتاب صفوة التفاسير للصابوني في تفسير الآية السابقة:({وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا} تعديدٌ لنعمه على العباد أي هو تعالى الذي ينزِّل المطر، الذي يغيثهم من الجدب، من بعد ما يئسوا من نزوله{وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ} أي ويبسط خيراته وبركاته على العباد{وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ} أي وهو الوليُّ الذي يتولى عباده، المحمود بكل لسان على ما أسدى من النعماء)(2).

تعيش بعض الدول ظروفًا صعبة نتيجة عدم نزول الغيث، حيث يشكو المواطنون من تأخُّر نزول الغيث، وما يتركه ذلك من تأثير على جميع مناحي الحياة: الاقتصادية، والاجتماعية، والزراعية، والثروة الحيوانية، ونسبة عذوبة المياه، وغير ذلك:{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَن يَأْتِيكُم بِمَاء مَّعِينٍ}(3)، لذلك فإن  الله سبحانه وتعالى يذكِّرنا دائماً بهذه النِّعمة العظيمة في قوله:{أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاء الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ * لَوْ نَشَاء جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلا تَشْكُرُونَ}(4).

لقد أنعم الله علينا وعلى البشرية بنعم كثيرة لا تُعدُّ ولا تُحصى:{وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا}(5)، ومن هذه النِّعم نعمة الماء والغيث كما قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} (6).

وعندما نلاحظ أن موسم الأمطار قد تأخر، فإن البعض يتساءل عن سرِّ ذلك،  فأقول بأن ذلك يرجع من وجهة نظر الإسلام إلى عدة أسباب، أهمها:

1- منع الزكاة: إنَّ الصدقات والزكوات ليست سبباً في قلة المال، ولا تنقصه، إنّما هي سبب في وجود خلف لها بعد خروجها كما جاء في الحديث (مَا نَقَصَ مَالُ مِنْ صَدَقَة)(7)، وفي ذلك يقول -عليه الصلاة والسلام-: (مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ الْعِبَادُ فِيهِ إِلا مَلَكَانِ يَنْزِلانِ، فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، وَيَقُولُ الآخَرُ: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا)(8)، ولو ألقينا نظرة على الواقع لرأينا أنَّ أهل الصدقات والجود يبارك الله لهم في أهليهم وأموالهم، بينما نرى العكس عند مانعي الزكاة حيث الكساد التجاري والأمراض والأوبئة في أنفسهم وأموالهم، ولو أنَّه سبحانه وتعالى يمتِّعهم إلى حين ثم يأخذهم أخذ عزيز مقتدر.

ومن أشكال الصدقات والبرِّ خصوصاً في مثل هذه الأيام مساعدة الفقراء والمعوزين، مساعدتهم بشراء الملابس الشتوية لهم، مساعدة الضعفاء والفقراء واليتامى والثكالى والأرامل، وإدخال السرور على القلوب البائسة بما أفاء الله عليك من النعم، فإنَّ منع الزّكاة سبب مباشر لغضب الله، فقد جاء في الحديث: (…وَلَمْ يَمْنَعُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ، إِلا مُنِعُوا الْقَطْرَ مِنَ السَّمَاءِ، وَلَوْلا الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا)(9).

2- نقص المكيال والميزان: فقد دعا الإسلام إلى تنظيم الموازين والمكاييل وعدم التلاعب بها، كما وحذَّر أتباعه من أن يبخسوا النّاس أشياءهم فيمنعوهم حقَّهم الشرعيّ، قال تعالى:{وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ}(10)، كما وحذر الرسول الكريم المسلمين من التلاعب بالمكاييل والموازين مبيِّناً أثر ذلك على المجتمع، فقال -عليه الصلاة  السلام-: (لَمْ يُنْقِصْ قَوْمٌ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ، إلا أُخِذُوا بِالسِّنِينَ، وَشِدَّةِ الْمَئُونَةِ، وَجَوْرِ السُّلْطَانِ عَلَيْهِمْ)(11).

3- كثرة المعاصي والذنوب: إنَّ كلَّ ما يصيب العبد من المصائب والبلايا فهو بسبب جناياته التي صدرت منه، فقد ورد أنَّ النبي – صلّى الله عليه وسلم قال: ( إِنَّ الرَّجُلَ لَيُحْرَمُ الرِّزْقَ بِالذَّنْبِ يُصِيبُهُ )(12)،
ولقوله تعالى:{ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}(13)، فما نراه اليوم من جدب وقلة الأمطار، ونزول الآفات بالنّاس والدواب، ومحق البركة هو نتيجة حتميَّة لبعدنا عن المنهاج الإلهي، ولكثرة المعاصي، وللظُّلم المنتشر بين البشر:{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} (14).

فنرى الأمانات قد ضُيِّعَتْ، وآفة الربا قد انتشرت في كلِّ مكان، والحقد والبغضاء أصبح علامة واضحة في المجتمع، ومن المعاصي أيضاً عدم شكر الله على نعمه، فالنِّعم تزداد بالشكر، وتقل بالكفر والجحود.

ولعل البعض يسأل: ما المخرج؟ وما هو العلاج للخروج من حالة القحط وندرة الأمطار…؟؟ ها نحن ندعو الله أن يكرمنا بالغيث، فأقول: ما قيمة الدعاء والأرحام مقطوعة؟! والظلم قائم؟! والمعاصي منتشرة؟! إذاً لابد من خطوات سليمة، لذلك فإننا نختار لك أخي القارئ  الكريم الخطوات السليمة التي يجب أن نسير عليها حتى يكرمنا الله بنزول الغيث وهي: –

أ‌- التوبة النصوح والاستغفار: وذلك يكون بالإقلاع عن المعاصي، والندم على ما فات، وعقد العزم على عدم العودة إليها، وردِّ الحقوق لأصحابها (كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ، وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ )(15)، ولقوله عليه السلام: (إنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ الْعَبْدِ مَا لَمْ  تَطْلُع الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا )(16)، (وقال ابن صبيح: شكا رجل إلى الحسن الجدوبة، فقال له: استغفر الله، وشكا آخر إليه الفقر، فقال له: استغفر الله، وقال له آخر: ادع الله أن يرزقني ولداً، فقال له: استغفر الله، وشكا إليه آخر جفاف بستانه، فقال له: استغفر الله، فقلنا له في ذلك، فقال: ما قلت من عندي شيئاً، إن الله تعالى يقول في سورة نوح:{فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا}(17)، وهذا يدلُّ على أنَّ الاستغفار يستنزل به الرزق والأمطار.

ب- الصدقة: الصدقة عمل جميل، وفيه تقرُّب إلى الله عزَّ وجلَّ، قال تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا}(18)، كما أنها فريضة فرضها الله على القادرين، حيث قال- صلى الله عليه وسلم- لمعاذ حين أرسله إلى اليمن: (فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً فِي أَمْوَالِهِمْ تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ وَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ)(19)، كما ورد أن الرّسول – صلّى الله عليه وسلم – قال: (حَصِّنُوا أَمْوَالَكُمْ بِالزَّكَاةِ، وَدَاوُوا مَرْضَاكُمْ بِالصَّدَقَةَ، وَاسْتَقْبِلُوا أَمْوَاجَ الْبَلاءِ بِالدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ)(20)، فجميل أن يخصِّص الأغنياء شيئاً من أموالهم للفقراء، وذلك بتقديم مساعدات شهرية للمساكين والمعوزين، ولطلاب المدارس والمعاهد والجامعات بدفع أقساط مدرسية عنهم، وللمرضى بدفع التأمين الصحي، ودفع ثمن الكهرباء والماء عمن لا عائل لهم:{وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ}(21).

ج- الخروج من المظالم: وذلك بأن تردَّ المظالم لأهلها، وإعطاء الحقوق لأصحابها، لأنَّ المظالم سبب انقطاع الغيث، وحرمان الرزق، وسبب الغضب، وإرسال العقوبات، بل سبب التدمير والهلاك، كما قال عزَّ وجلَّ:{وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا}(22 )، فلابَّد من ردِّ المظالم لأصحابها.

د- الصيام: الصوم من أفضل وسائل التّقرُّب إلى الله لتشبُّه الصائم بالملائكة، ويكون ذلك بصيام ثلاثة أيام متتابعات، كما كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنَّ دعاء الصائم أقرب إلى الإجابة، فالدّعاء يكون بعد التوبة والاستغفار، والصدقات، ورد المظالم لأصحابها لأنَّ فائدته مرجوة إن شاء الله، ثمَّ من السُّنَّة أن يصلي المسلمون صلاة الاستسقاء.

هـ- صلاة الاستسقاء: للاستسقاء صلاة كصلاة العيد(23)، ركعتان تصلّى فرادى وجماعة، ويخطب لها خطبتان، للحديث: (خَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَسْتَسْقِي، فَتَوَجَّهَ إِلَى القِبْلَةِ، وَحَوَّلَ رِدَاءَهُ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، جَهَرَ فِيهِمَا بِالقِرَاءَةِ)(24)، وتشتمل الخطبتان على الثناء على الله عزَّ وجلَّ، والدّعاء والالتجاء إليه في أن ينزل الغيث ويرحم العباد وجميع المخلوقات، لما روي عن أنس بن مالك – رضي الله عنه-  أنه قال: (جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-  فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلَكَت الْمَوَاشِي، وَتَقَطَّعَت السُّبُلُ، فَادْعُ اللَّهَ، فَدَعَا اللَّهَ، فَمُطِرْنَا مِنْ الْجُمُعَةِ إِلَى الْجُمُعَةِ، فَجَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-  فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، تَهَدَّمَت الْبُيُوتُ، وَتَقَطَّعَت السُّبُلُ، وَهَلَكَت الْمَوَاشِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اللَّهُمَّ عَلَى ظُهُورِ الْجِبَالِ وَالآكَامِ وَبُطُونِ الأَوْدِيَةِ وَمَنَابِتِ الشَّجَرِ، فَانْجَابَتْ عَنْ الْمَدِينَةِ انْجِيَابَ الثَّوْبِ)(25).

لذلك علينا أن ندعوه سبحانه وتعالى، اللهمَّ إنَّا ندعوك كما أمرتنا فاستجب لنا كما وعدتنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا يا ربَّ العالمين.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

الهوامش :  

1- سورة الشورى الآية (28).

2- صفوة التفاسير للصابوني (3/140-141).

3- سورة الملك الآية (30).

4- سورة الواقعة الآيات (68-70).

6- سورة النحل الآية (18).

6- سورة الأنبياء الآية(30).

7-  أخرجه أحمد بن حنبل.

8- أخرجه البخاري.

9-  أخرجه ابن ماجه.

10- سورة الرحمن الآية (9).

11- أخرجه ابن ماجه.

12- أخرجه ابن ماجه.

13- سورة الروم الآية (41).

14- سورة الأعراف الآية (96).

15- أخرجه الترمذي.

16-  أخرجه الترمذي.

17- الجامع لأحكام القرآن للقرطبي18/302.

18- سورة التوبة الآية (103).

19- أخرجه مسلم.

20- ذكره السيوطي في الجامع الصغير 1/148.

21- سورة الطلاق الآيتان (2-3).

22- سورة الإسراء الآية (16).

23- كفاية الأخيار1/97.

24- أخرجه البخاري.

25- أخرجه البخاري.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com