التربيّة والتعليم…

يكتبه د. محمّد قماري/
كثيرٌ من الشباب ينزعج من حديث الكهول والشيوخ عن ماضيهم، ويزداد انزعاجهم من نزعة الفخر بذلك الماضي، وتهوينهم من شأن الحاضر والجيل الحاضر، إذ يصفون ماضيهم بالزمن الجميل والبطولي، أما هذا الحاضر وجيله فهو أقرب إلى السفاهة والاهمال…
يسمع الشباب تلك المعزوفة في البيوت من آبائهم، ويسمعونها على مقاعد الدرس من أساتذتهم، ويسمعونها في مواقع العمل والوظائف من رؤسائهم، جمعيهم يفخر بالماضي ويلمز في الحاضر وأهله، ويغتاظ الشباب وحقَّ لهم أن يغتاظوا، غير أنني متأكد من أنَّ أغلبهم يقعون في قابل سنواتهم في هذا الفخ، ذلك أنني سمعت مثل هذا الحديث وأنا بعدُ يافع، سمعته من أبي وسمعته من بعض من درسني، وسمعته من بعض كبار الحي الذي نشأت فيه…
إنَّ الذين يحدثونكم عن الزمن الجميل، وبعضه ليس جميلا بكل تأكيد، إنما يحدثونكم عن أنفسهم يوم كانوا مقبلين على الحياة بعنفوان الشباب، فذلك الجمال ما هو إلا شعورهم في تلك الأيام بالحياة المقبلة، فإذا ما بلغ الإنسان سن الخمسين سار في الحياة كما قال الأستاذ العقاد، رحمه الله، وهو يتحدث عن هذه السن: (أن الخمسين نهاية الكسب أو التحصيل من الحياة، ليس بعدها ما يأخذه الإنسان من الدنيا ويضِيفه إلى تكوين عقله وجسمه، ولكنه لا يزال بعدها يعطي الكثير ويفقد الكثير، إيذانا بفقد كل شيء يأخذه التراب من التراب)…
فهي إذن سن التأمل في ما مضى، والتطلع غير المندفع فيما هو آت، إذ القادم على وجه التحقيق لا يبشر بالنماء، بمقدار ما كان من ذكريات تشحذ بالقوة للحفاظ على ما تحقق أو ما أنجز، ومن ثمَّ يأتي شحن الشباب بطاقة تحثهم على استغلال ما بين أيديهم من مقدرة على الانجاز، وإن ظهرت في صورة مقارنات ظالمة…
ولعل من الانصاف أن ننظر إلى الجهة المقابلة، فهناك فصيل من الشباب ينظرون إلى الماضي وأهله بعين الريبة، فإذا جهل بعض من يكبرهم تفصيلاً في تقنية معينة، ذهبوا وهم يتغامزون من جهل (القدماء)، ورميهم بكل نقيصة، وجعلوا من ذلك النقص مطيّة لتسفيههم، وتسفيه الماضي كله، والحقُ أن الماضي ليس ورديًا أو جميلاً كله، ولكنه ليس قبيحًا أو مدعاة للتنكر له كله، ففيه من الانجازات التي يجب أن تستمر وتطوّر، كما فيه ما تجاوزه الزمن أو كان قبيحًا يجب أن يختفي…
وفي الأيام الماضي كلمني أحد شيوخ (الماضي)، واستعرض معي بعض ذكرياته، وما أكثر حديث الذكريات عند من تقدمت بهم سنين العمر، حدثني عن بداية الثمانينيات يوم ذهب لإجراء اختبار السياقة، قال: لقد سقطت في الامتحان، ولم يكن السبب تقنيا، فلقد كنت أحسن قيادة السيارة، لكن ركبت سيارة الامتحان وفي يدي سيجارة، وبعد أن قمت بتريك السيارة طلب مني الممتحن اطفاءها، فرميتها من النافذة، فقال لي الممتحن: لقد تسببت في حريق غابة، انزل فما زلت لا تصلح لقيادة مركبة!
وتأملت في قصته، وقلت ذلك هو الربط الجيّد بين التربيّة والتعليم، فالرجل كما قال لي بعد ذلك لم يرم بسيجارة من نافذة سيارته إلا أن أقلع عن التدخين نهائيًا، تلك هي أحد حسنات الماضي الكبيرة التي أضعناها، يوم ظننا التعليم حشوا للرؤوس بمقررات نظرية وحسب، أو أن المطلوب من الإنسان أن يحسن مهارة تقنيّة تشبه برمجة الروبوت أو تدريب بعض الحيوانات…
وعادت بي الذاكرة إلى أيام التعليم الابتدائي، يوم كان معلمنا يتفقد أجسامنا، ويتفقد نظافتها ونظافة ثيابنا، يوم تعلمت في تلك السن المبكرة ألفاظا لم أنسها مع مر السنين، كالطَّلْمُ ( وَسَخُ الأسنانِ من إهمال تنظيفها)، و التُّفُّ (وَسَخُ الظُّفْر)، والغمص (وسخ أبيض يخرج من العين)، كان المعلم ينبهنا بأسمائنا انزع التُّف يا فلان، وازل الطّلم يا فلان، واغسل الغمص يا فلان! فزاد رصيدنا اللّغوي وتعلمنا النظافة.
وكنت ذات مرة استمع للدكتور محمّد جاب الله، وهو طبيب عيون، كان طالبًا في كليّة الطب في الستينيات من القرن الماضي، وهو يحدثني عن التكوين الميداني لطلبة الطب في سنواتهم الأولى من التكوين، قال: كان أساتذتنا يقصون من النجاح كل من يغفل عن نظافة مئزره أو لا يحسن غلق ازراره، وكل من يضع يدها أو سماعته على جسم المريض قبل تسخينهما حتى لا يتأذى المريض…
هذه صورة من الماضي الجميل، يوم كان الجار يقوم على تربيّة ابن جيرانه، ولا يرضى ان يراه في مكان شبهة أو وضع لا يليق بأبنائه هو، فلا ننزعج إذن من تلك الصور الجميلة التي فقدناها!