الهجرة بعد الرسول صلى الله عليه وسلم والاقتداء به

عبد العزيز كحيل/
للهجرة مقام رفيع في دين الله، قال تعالى: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}[سورة النحل 41]، والاقتداء بالرسول -صلى الله عليه وسلم – دليل صدق المحبة، قال تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [سورة آل عمران 31]… معنى الهجرة متجدد والاقتداء شغل المسلمين الشاغل.
تجديد الهجرة: الهجرة الأولى التي أبدا فيها القرآن وأعاد كانت هجرة حسية مكانية لتكثير سواد المسلمين وحماية المقبلين على الدين من فتنة قومهم المشركين لهم، كان فرضا الانتقال إلى دولة الإسلام –المدينة المنورة – وقد انتهت بفتح مكة ودخول الجزيرة العربية في الإسلام، فهل هناك هجرة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم؟
قال في الحديث: «لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونيّة»[رواه البخاري ومسلم]، انتهى زمان الهجرة المكانية لكن يستطيع المؤمن أن ينال ثوابها إذا انخرط في أنواع من الهجرة الشعورية وهو يستصحب نية التقرب إلى الله تعالى، ورد في الحديث: «المسلمُ من سَلِمَ المسلمونَ من لسانهِ ويدهِ، والمهاجرُ من هجر ما نهى اللهُ عنه»[متفق عليه]، كأنه يقتفي أثر نبي الله إبراهيم عليه السلام: {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ}[سورة الصافات 99]، نجد أمامنا أنواعا عدة وأشكالا متنوعة من الهجرة الشعورية المعنوية، وهي هجرة واجبة أو مستحبة -بحسب الأحوال – متاحة في كل زمان:
– الهجرة من المعصية إلى الطاعة، ومن الضلال إلى الهدى، ومن الظلمة إلى النور، ومن البدعة إلى السنة.. ومن الفُرقة إلى الجماعة.. ومن الجهل إلى العلم.. ومن الضعف إلى القوة.. ومن الفقر إلى الغنى.. ومن الهزيمة إلى النصر.. ومن الذلة إلى العزة.. ومن التبرج إلى الحجاب.. ومن العقلية الخرافية إلى العقلية العلمية.. ومن السلبية إلى الإيجابية.. ومن التيه إلى الرشاد.. ومن القوانين الوضعية إلى شرع الله.. ومن الافتتان بالغرب إلى الاعتزاز بالإسلام.. ومن التديّن الشكلي إلى التديّن الواعي البصير.
هي هجرة جميلة حسنة تنتظم الفرد والجماعة والأمة، ينبغي أن تكون حاضرة في أذهان المسلمين كلّ يوم وفي كلّ مكان وعلى كل حال لأنّها –باختصار – انتقال مما لا يحبه الله ولا يرضاه إلى ما يحبه ويرضاه، وتدور حول إصلاح حال المؤمن وجماعته ودولته وأمته بترك الملوّثات والعوائق والمثبطات، والإقبال على العزائم والمنشطات والكمالات، بالتصالح مع الله عز وجل وتصحيح المسار وتجديد الصلة بجوامع الدين والأخلاق والمعالي.
والمقياس الذي يُدخل هذه الأنواع من الهجرة إلى ميدان محابّ الله هو النية: «فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله…»[رواه البخاري ومسلم] والنية الحسنة الصادقة تحوّل حتى العمل العادي البسيط إلى قربة إلى الله.
وكم هي ملحة حاجتنا إلى تجديد معاني الهجرة والتشبع بها والإقبال عليها في زمن رقة الدين وتغوّل العولمة المادية التي أصابتنا –أفرادا وأمة – في مقاتل فأحالتنا في حياتنا الأسرية والاجتماعية إلى السير المتعثر والتراجع الديني والأخلاقي والحضاري.
هكذا نقتدي بالرسول صلى الله عليه وسلم:
– قال عليه الصلاة والسلام: «يسروا ولا تعسروا»- [متفق عليه]. نحن ميسّرون على عباد الله، ندور مع اليسر حيث دار، نبشرهم ونرغبهم ولا ننفرهم بالفتوى المتشددة والأقوال الشاذة، أي نحبب إليهم دين الله، وكل هذا مستقى من هدي السماء: {يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}[سورة البقر 185]، والاقتداء بصاحب الرسالة يعني تحويل الشعار إلى دأب عملي ميداني فعلي لأن هناك من يرددون الحديث لكنهم يختارون دائما التشديد في الفتوى والتنفير في الدعوة، يتركون الأيسر ويأخذون بالأحوط، وعبوس وجوههم أدنى درجات التنفير.
– وصف المسلمَ بأنه: «سهل إذا باع وإذا شترى وإذا اقتضى»[رواه البخاري]. بناء على ذلك نعامل العباد بالسماحة، أي لا نتشدد في معاملاتنا معهم بل نعاملهم بالحسنى ونتنازل عن حقوقنا لإخواننا المسلمين ابتغاء وجه الله، نترك العنت والخصومة كما كان دأبه عليه الصلاة والسلام، فهذا أدنى إلى تأليف القلوب ونشر معاني الأخوة والمحبة بين المسلمين، وويل لكل غليظ جواظ سيئ العشرة لا ينجو منه مسلم، لا جار ولا زميل ولا متعامل، بل ولا زوجة ولا ولد، فأنى له أن تنفعه صلاته وصيامه ونوافله ومزاعمه؟
– «لم يكن سبّابا ولا لعّانا ولا بذيئا»[رواه الترمذي]. نحن أيضا ألسنتنا طاهرة من هذه الآفات، لا نسبّ مخالفا لنا في الرأي، ولا نلعن حتى العاصي، ولا بذاءة في كلامنا حتى في حالة الغضب، ولا ينقضي العجب ممن يعرفون حديث عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه – ويدرّسونه لكن كل كلامهم سباب ولعن وبذاءة!!!
– قال: «تبسمك في وجه أخيك صدقة»[رواه الترمذي] فتركنا الوجه العبوس وكنّا مثله -صلى الله عيه وسلم – تعلونا الابتسامة والبشاشة في جميع الأحوال كدليل سلام وأخوّة إيمانية ومحبة لوجه الله وصفاء سريرة لا يسوّق إلا الخير.
– لا يشغلنا المظهر كثيرا إلّا ما كان فرضا واجبا (كحجاب المرأة)، فالرسول -صلى الله عليه وسلم – كان يرتدي نفس ثياب بيئته مثل جميع سكان مكة والمدينة، أما اللحية فهي في أقصى الحالات سنة وليست فرضا وليست مقياسا للصلاح، وقد تعلمنا منه -صلى الله عليه وسلم – «إن الله لا ينظر إلى صوركم وأجسامكم ولكن إلى قلوبكم وأعمالكم»(رواه مسل) لذلك ينصب اهتمامنا على تزكية قلوبنا وإصلاح أعمالنا، ونعمل على إحداث التوازن بين صلاح الظاهر والباطن لتكون لرضا الله أقرب.