الحدث

عبد الكريم بجاجة الكاتب في مجلة Le jeune musulman في ذمة الله

أ. محمد مصطفى حابس: جنيف / سويسرا/

كنت قد طلبت منذ أزيد من عقد من بعض الزملاء في قسنطينة، الاحتكاك بالمرحوم وتسجيل حوار معه حول تاريخ وأرشيف الجزائر الزاخر، إذ يعد مخزنا لتراثنا، لكن هموما وانشغالات دخلت على الخط، فاكتفينا بمقالاته التي يكتبها معنا بالفرنسية في مجلة الشاب المسلم، ولم يتيسر لي مطالعة جل كتبه، بل أسمع عنها من حين لآخر من أهل الاختصاص.. وها هو العدد الجديد لمجلة الشاب المسلم رقم 45 في طريقه لجمع أواخر مقالات، Le jeune musulman لست أدري هل أرسل مساهمته أم لا.. عموما الساحة الفرنكوفونية خسرت أحد الأقلام الوطنية الأصيلة.. إنها وفاة أستاذنا المعطاء عبد الكريم بجاجة..
وأنا أكتب هذه الكلمات، متذكرا تسجيله لبعض مذكراته، في فيديو يحكي فيه ما وقع له في ثمانينيات القرن الماضي في عهد الرئيس الشاذلي، في مطار قسنطينة وهو يهم للذهاب في مهمة لندوة في العاصمة كمشرف على الأرشيف مع الوزارة المعنية فيجد نفسه محاطا بشرطة دون زي رسمي، فتساءل من أنتم قالوا له: “الشرطة العسكرية”، فرفض المشي معهم، واقترح عليهم الذهاب أمام باب المطار أين توجد دورية الشرطة بالزي الرسمي، بعدها غيب عن الأنظار كما يحكي هو عنها..
الباحث عبد الكريم بجاجة من مواليد 26 مارس 1945 بقسنطينة، درس بجامعة الإخوة منتوري بقسنطينة، واختار التخصص في مجال البحث والأرشفة بداية من سنة 1974، قدم الكثير للبحث التاريخي بصفة عامة وتاريخ الجزائر بصفة خاصة.
المرحوم كان له أحباب ومتابعون كثر في أوروبا لصفحته وإنتاجه، لأنه متقن للفرنسية والعربية..
إذ كانت كلماته الأخيرة على صفحته، كالتالي: الأولى يوم الخميس 20 جانفي التاسعة ليلا و 25 دقيقة مرفوقة بصورته وهو مريض في سريره، حيث كتب: “دعواتكم لي بالشفاء ولجميع المرضى وربي يرفع علينا هذا الوباء”، فانهالت الدعوات له بالشفاء له ولباقي المرضى..
في اليوم الثاني مباشرة أي يوم الجمعة الماضي وفي نفس التوقيت تقريبا التاسعة ليلا ودقيقتان، كتب في صفحته “كي عاش ما كسب، كي مات ما خلا”، فانهالت على صفحته الدعوات له بالخير، وتطمينه بالصبر على البلاء !ّ!
بعدها توقف خبره مدة 3 أو 4 أيام، ليطلع علينا أحد أولاده ويكتب في صفحة والده، يوم الثلاثاء الفاتح من فيفري، الساعة الثامنة صباحا:” انتقل إلى رحمة الله أبي عبد الكريم بجاجة يوم أمس الاثنين”، وإنا لله وإنا اليه راجعون.
الفقيد كان باحثا ومؤرخا، كتب العديد من الأعمال عن مهنة الأرشفة وعن التاريخ عموما باللغتين العربية والفرنسية من أبرز الأقلام الملتزمة بالفرنسية وذلك ما يلاحظه القارئ خاصة في جل أعداد مجلة “الشاب المسلم” الأخيرة، لسان حال جمعية العلماء المسلمين بالفرنسية، ومن أهم مؤلفته كتاب: “معركة قسنطينة 1836 1937″، و كتاب “أوتوبيا كابوس توماس مور” و”أوتوبيا نهاية الإنسانية” إلى جانب كتاب “بجاجة ينتقل للوحة أرشيفي جزائري ينشر ذكرياته” وكذا كتاب “اعترافات أرشيفي جزائري” وكتاب “دار القالال مسار قسنطيني”، وهو عمل قريب للسيرة الذاتية استعرض فيه قصصا وحكايات ترتبط بالمنزل الذي ولد فيه والبيئة التي شكلت معالم شخصيته.
وفي عام 1992، عين على رأس المركز الوطني للأرشيف، حيث لعب دورا محوريا وأساسيا في عملية ضبط وتنظيم الذاكرة الوطنية، فقد عمل على الحفاظ على الأرشيف ونشره من خلال عدد من البحوث التي أشرف على إعدادها باللغتين العربية والفرنسية، قبل أن يغادر الجزائر مكرها سنة 2002، ليلتحق بمركز التوثيق والبحث بإمارة أبو ظبي بالإمارات، وذلك كمستشار دولي في الأرشفة، حيث قدم الكثير هناك وكان من بين العناصر الفاعلة في عملية تنظيم وتطوير الأرشيف الإماراتي كما يقدمه الموقع الإلكتروني للمركز الإماراتي.
يعد الراحل أشهر أرشيفي في الجزائر وواحدا من أهم الكفاءات العربية في هذا المجال..
وبهذه المناسبة الأليمة، فإن الجالية الجزائرية والمسلمة في أوروبا خاصة، تتقدم لأسرته خاصة، ولنخبة الصحوة الوطنية التي ساهم في بنائها منذ أمد طويل بصفة عامة، وللمجتمع الجزائري بصفة أعم، بأحر التعازي والمواساة، في فقدان هذا الرجل الرسالي الثابت، الذي قضى ما يزيد عن نصف قرن في ساحات التربية والإصلاح الاجتماعي، فما وهن وما ضعف بل زاده ذلك ثباتا وخبرة وحنكة وحكمة.
إن اتحاد الجمعيات الإسلامية في أوروبا يتضرع إلى الله تعالى أن يتغمد الفقيد برحمته الواسعة، وأن يلحقه بقوافل الرساليين من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا في مقعد صدق عند مليك مقتدر، وأن يلهم ذويه وطلبته ومحبيه وإخوانه في طريق الدعوة والإصلاح، الصبر والسلوان، وأن لا يحرمنا جميعا أجره، وأن لا يفتننا بعده، وأن يوفقنا لنمضي على طريق الرسالية الرشيدة إلى آخر نفس من حياتنا.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com