في ظلال السنة النبوية الشريفة فِعْلُ الخــــير وكفُّ الأذى عن الغــــير
أ.د/ مسعود فلوسي*/
عَنْ أبى ذَر الغفاري رضي الله عنه قال: قُلتُ يا رسولَ اللهِ، أيُّ الأعمالِ أفضلُ؟ قال: «الإيمانُ باللهِ، والجهادُ في سَبيلِهِ». قلتُ: أيُّ الرِّقابِ أفضلُ؟ قال: «أنْفسُها عند أهلِها، وأكثرُها ثمنًا». قلتُ: فإنْ لم أفعلْ؟ قال: «تُعين صانعًا، أو تصْنعُ لأَخْرقَ». قلتُ: يا رسولَ اللهِ، أرأيتَ إنْ ضَعُفتُ عن بعضِ العَمَلِ؟ قال: «تَكُفُّ شرَّكَ عن الناسِ؛ فإنَّها صدَقةٌ مِنْكَ عَلَى نَفسِكَ»[متفقٌ عليه]. |
المسلم فَعَّال للخير
المعنى المتبادر إلى الذهن من هذا الحديث؛ أن شأن المسلم في الحياة هو الحرص على فعل الخير والاجتهاد فيه وتتبع أبوابه وصنع المعروف طلبا لمرضاة الله عز وجل وابتغاء الفوز بالجنة والنجاة من النار. وهذا ما أرشدنا إليه سبحانه وتعالى في كتابه الكريم في قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (الحج: 77).
والمسلم يفعل الخير لأنه يرجو الفلاح، لأن الله تعالى يقول: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}، و(لعل) تفيد الترجي كما يقول علماء النحو، بمعنى أن من لا يفعل الخير لا يرجو الفلاح، فإذا كنت ترجو الفلاح والنجاة والفوز بالجنة فعليك بفعل الخير، وإذا كففت عن فعل الخير وتركت السعي في أبواب الخير فأيّ فلاح ترجوه؟
الصحابة كانوا يسألون عن أعمال الخير
ولذلك كان الصحابة الكرام رضوان الله تعالى عليهم حريصين على معرفة مجالات الخير، فكانوا كثيرا ما يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أبواب الخير، بل يسألونه عن أفضل الأعمال لأنهم حريصون أن يحصلوا على أعلى الدرجات، فهم لم يكونوا يهتمون فقط بعمل الخير، وإنما كانوا يريدون معرفة أفضل أعمال الخير.
وهذا ما هو ظاهر من هذا الحديث، وهناك أحاديث أخرى في السنة النبوية الشريفة تضمنت أسئلة من الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن أفضل الأعمال، وهو صلى الله عليه وسلم كان ينوع في الجواب مراعاة لحال كل سائل، فهو عندما كان يسأله أحد الصحابة، وهو صلى الله عليه وسلم يعرف شخصيته، يجيبه بما يوافق هذه الشخصية، أي بما يعرف أن هذا الشخص يحسنه ويستطيع أن يجتهد فيه أكثر، ولذلك تنوعت أجوبة النبي صلى الله عليه وسلم عن أسئلة الصحابة حول أفضل الأعمال.
الإيمان والجهاد أفضل الأعمال
في هذا الحديث لما سأل سيدنا معاذ بن جبل رضي الله عنه الرسول صلى الله عليه وسلم: أي الأعمال أفضل؟ أجابه صلى الله عليه وسلم: «الإيمانُ باللهِ، والجهادُ في سَبيلِهِ»، فأفضل عمل يمكن أن يقوم به الإنسان في هذه الحياة هو أن يؤمن بالله، ولا عمل أفضل من هذا، لأنه بلا إيمان لا يصلح أي عمل آخر. وبعد الإيمان بالله يأتي الجهاد في سبيله، وأوله هو العمل للتمكين لدين الله في نفسك أولا وفي محيطك وفيما تستطيع أن تصل إليه؛ كما قال تعالى: {ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}(النحل: 125). وذروة صور الجهاد هو القتال في سبيل الله عندما تُحتل بلاد الإسلام أو عندما يُمنع المسلمون من إقامة شعائر دينهم، قال تعالى: {وَقَٰتِلُواْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ يُقَٰتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوٓاْ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلْمُعْتَدِينَ}(البقرة: 190).
كثرة أبواب الخير
وقد أرشدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبواب الخير، وأكد على كثرتها وضرورة أن يسعى المسلم فيما يستطيعه منها، عنْ أَبي ذَرٍّ رضي الله عنه أَنَّ رسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قالَ: «يُصْبِحُ عَلى كُلِّ سُلامَى مِنْ أَحدِكُمْ صَدَقةٌ: فكُلُّ تَسْبِيحةٍ صدقَةٌ، وكُلُّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةٌ، وكُلُّ تَكْبِيرةٍ صدقَةٌ، وَأَمْرٌ بِالمعْرُوفِ صَدقَةٌ، وَنَهْيٌ عَنِ المُنكَرِ صدقَةٌ. وَيُجْزِئُ مِنْ ذلكَ ركْعتَانِ يَرْكَعُهُما منَ الضُّحَى»[رواه مسلم].
فأبواب الخير كثيرة لا تحصى، وهي متجددة ومتنوعة بحسب الأمكنة والأزمنة، عَنْ أبي هُريرةَ رضي الله عنه عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «الإيمانُ بِضْعٌ وسَبْعونَ أو بِضْعٌ وسِتُّونَ شُعبةً: فأفضلُها قولُ لا إِلهَ إلَّا اللهُ، وأدْناها إماطةُ الأذَى عَنِ الطَّريقِ، والحياءُ شُعْبةٌ مِنَ الإيمانِ» [متَّفقٌ عليه].
نموذج معاصر لتحرير الرقبة
الصحابي أبو ذر رضي الله عنه سأل بعد ذلك سؤالا قد يبدو في عصرنا هذا غريبا، قال: أي الرقاب أفضل؟.. الرقبة هي العبد أو الشخص المستعبد الذي يشتريه الإنسان ويحرره من العبودية، فهذا من الأعمال الفاضلة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، لأن العبيد كانوا موجودين في ذلك العهد.
وسيدنا أبو ذر لم يسأل عن تحرير العبد فقط، وإنما سأل: ما هو أفضل ما يمكن أن يحرر من العبيد لتحصيل أعظم الأجور بذلك؟ فقال عليه الصلاة والسلام: «أنْفسُها عند أهلِها، وأكثرُها ثمنًا»، أي من كان غاليا في ثمنه ومُهِمًّا عند مالكه أو سيده، فإذا ساومه غيرُه فيه سيطلب فيه أغلى ثمن، فمن أراد أن يحرر عبدا فليكن من هذا النوع.
في عصرنا هذا لا يوجد عبيد والحمد لله، فقد قضى الإسلام على العبودية بالتدريج.. لكن السؤال: كيف يمكن للمسلم أن يمارس هذا العمل في عصرنا ويحصل على أجر تحرير رقبة؟
هناك أعمال عديدة يمكن أن تعوض تحرير العبيد؛ منها دفع ديْن الغارم، والغارم هو الإنسان الذي عليه ديون، مثل إنسان لا يملك بيتا فاضطر إلى الاستدانة لبناء بيت يأوي إليه هو وزوجه وأولاده. أو إنسان أصيب بمرض واضطر لإجراء عملية جراحية بثمن باهظ ولجأ إلى الاستدانة، لكنه بعد ذلك لم يستطع تسديد الدين. أو إنسان وقع في خسارة، كأن كان تاجرا بالتجزئة مثلا ويأخذ السلع من تجار الجملة كديْن على أساس أن يسدد ثمنها بعد بيعها، لكنه وقع في خسارة فادحة فلم يعد قادرا على التسديد.
فهؤلاء وأمثالهم يصبح الواحد منهم كالعبد المقيد الذي لا يملك نفسه، ويصبح حاله كما قيل: «هَمٌّ باللَّيلِ، ومذلَّةٌ بالَّنهارِ»، فهو في الليل يبيت سهرانا مهموما يفكر في كيفية تسديد ديْنه، وفي النهار لا يستطيع أن يخرج للناس خوفا منهم ومن مطالبتهم له بدفع ما عليه، فهذا مثل العبد الذي يحتاج إلى تحرير، وخاصة إذا مات هذا الإنسان والديْن ما يزال في رقبته، وقد امتنع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصلاة على من مات وعليه دين، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: مات رجل فغسلناه وكفناه وحنطناه ووضعناه لرسول الله صلى الله عليه وسلم حيث توضع الجنائز، عند مقام جبريل، ثم آذنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلاة عليه، فجاء معنا فتخطى خطى، ثم قال: «لعل على صاحبكم ديْنًا؟»، قالوا: نعم ديناران، فتخلف وقال: «صلوا على صاحبكم»، فقال له رجل منا يقال له أبو قتادة: يا رسول الله هما علي. فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «هما عليك وفي مالك، والميت منها برئ؟» فقال: نعم، فصلى عليه. فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا لقي أبا قتادة يقول: «ما صنعت الديناران؟» حتى كان آخر ذلك أن قال: قد قضيتهما يا رسول الله، قال: «الآن حين بردت عليه جلده» [رواه أحمد]؛ أي: نجَا مِن العذابِ الذي كان سيتعرض له بسَببِ هذا الدَّينِ..
فالديْن مثل العبودية تماما، ولذلك عندما تحرر إنسانا من هذه العبودية الناشئة بسبب الديْن تكون قد أعتقت رقبة. فصور عتق الرقبة تتجدد بتجدد العصور وتجدد حياة الناس.
معونة من يفعل الخير
بعد ذلك سأل الصحابي: فإن لم أفعل؟ أي إن لم أجد مجالا للجهاد ولم أستطع تحرير رقبة فماذا أفعل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تُعين صانعًا، أو تصْنعُ لأَخْرقَ»، وفي رواية «تعين ضائعا»، وكلتاهما لها معنى: تعين صانعا؛ أي تعين إنسانا يصنع الخير، بما عندك إن كان قليلا، أو تعينه بالتشجيع والدعاء والحث على إتمام هذا الفعل. وتعين ضائعا؛ أي إنسانا فقيرا ضائعا لا يملك شيئا، تعينه بما عندك، حتى وإن كنت ضعيفا وفقيرا مثله تقتسم معه وتعينه ولا تتركه للهموم تنهشه وتقضي عليه.
أو تصنع لأخرق: الأخرق هو الذي يحاول القيام بعمل ما ويعجز عنه فتقوم بعمله نيابة عنه، مثال ذلك أن تكون مسافرا بسيارتك في الطريق ووجدت إنسانا متوقفا بسيارته وقد انفجر أحد إطارات سيارته ولم يعرف كيف يستبدله أو لم يكن عنده وسيلة رفع السيارة لتغييره، فتقوم بتغييره له أو تمكنه من وسيلة تغييره. ومثله أن تدخل بنكا أو مكتب بريد وتشرع في ملأ شيك لسحب مال فيأتيك شخص ويطلب منك أن تملأ له شيكه لأنه لا يعرف كيف يملؤه، فتقوم بذلك نيابة عنه. ومثله إنسان يسأل عن المكان الذي توجد فيه عيادة الطبيب الفلاني ولا يعرف كيف يصل إليها، فتقوم بإيصاله إليها أو تصف له بدقة وسهولة طريق الوصول إليها. وهكذا، فأفعال الخير من هذا القبيل كثيرة.
من لم يستطع فعل الخير فلا يفعل الشر
لم يتوقف سيدنا أبو ذر هنا، وإنما واصل السؤال، فقال: يا رسولَ اللهِ، أرأيتَ إنْ ضَعُفتُ عن بعضِ العَمَلِ؟ يعني: ماذا لو لم أستطع فعل شيء من الخير أصلا ونهائيا؟.. وهذا في الواقع غير متصور، فلا يعقل أن يعجز المؤمن عن شيء من الخير مهما كان قليلا، لكن لو افترضنا أن مسلما لم يستطع فعل أي شيء من الخير، فماذا ينبغي عليه؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تَكُفُّ شرَّكَ عن الناسِ؛ فإنَّها صدَقةٌ مِنْكَ عَلَى نَفسِكَ».
أي تصدق على نفسك بكف شرك عن الناس، وهذا المعنى هو ما نحتاجه في عصرنا هذا، ذلك أن معظم المسلمين اليوم لا يفكرون في فعل الخير، فالواحد منهم لا يعيش إلا لنفسه، همه العمل والحصول على المال لتحقيق العيش الرغيد هو وأولاده والاستمتاع بالحياة، ولا شيء غير ذلك، حيث لا يفكر في عمل الخير إلا قليلا، فهو إن كان صالحا تراه يصلي ويأتي ببعض النوافل، أما أن يفكر في فعل الخير ويطرق أبوابه المختلفة، فهذا قليل.
من صور الأذى المتبادل في حياتنا
ولكن المشكلة ليست هنا، المشكلة أننا لا نكتفي بعدم فعل الخير، وإنما نتفنن في إيذاء بعضنا بعض بصور كثيرة وطرق متعددة ووسائل مختلفة، فنحن لا نكف عن اغتياب بعضنا البعض، ناهيك عن صور الأذى الأخرى: النميمة، الوشاية، الكيد، العراقيل، التحرش، السب والشتم، كثرة الخصومة، كل صور الإيذاء نمارسها مع بعضنا البعض.
والأذى بيننا لا ينحصر في دائرة معينة وإنما يمتد إلى كل دوائر العلاقات: إيذاء الوالدين، إيذاء الأزواج، إيذاء الأولاد، إيذاء الجيران، إيذاء الزملاء في العمل، إيذاء الناس في الشوارع والطرقات، حتى بدون قصد في كثير من الأحيان، لكن هذا الإيذاء غير المقصود مؤثر ومفسد للعلاقات ومحسوب على فاعله دنيويا وأخرويا.
هناك أناس يطعنون في أعراض غيرهم ببساطة عجيبة، حتى دون أن يعرفوهم أو يخالطوهم أو يعاشروهم، فيقولون عنهم ما ليس فيهم ويحملونهم ما لا يحتملون. وهناك أناس لا يطيقون أن يروا شخصين متحابين متساندين، فيدخلون بينهما ويفرقونهما عن بعضهما حتى يصبحا متعاديين متنافرين. وهناك من لا يرضيهم أن يروا خيرا أبدا. هذا حال كثير من المسلمين اليوم مع الأسف. وكل ذلك مما نهانا الله عنه وحذرنا منه الرسول صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: {وَٱلَّذِينَ يُؤْذُونَ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَٰتِ بِغَيْرِ مَا ٱكْتَسَبُواْ فَقَدِ ٱحْتَمَلُواْ بُهْتَٰنًا وَإِثْمًا مُّبِينًا} (الأحزاب: 58). وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إيَّاكم والظنَّ، فإنَّ الظنَّ أكذب الحديث، ولا تحسسوا، ولا تجسسوا، ولا تنافسوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانًا» [متفق عليه]. وعن أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من اتبع عوراتهم يتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته» [رواه أبو داود وأحمد].
ومنذ أن ظهرت مواقع التواصل الاجتماعي، أصبح الأذى بعيد المدى، فالناس يتهمون بعضهم بعضا، ويسخرون من بعضهم البعض ويصور بعضهم بعضا بصور مؤذية، وهذا أخطر وأعظم، لأن الأذى عندما يكون قاصرا بين اثنين أو في جماعة قليلة فهذا أثره محدود ودائرته ضيقة ويمكن تداركه، لكن عندما يكتب شخص في الفايسبوك مثلا كلاما يستهزئ فيه بإنسان أو يفتري عليه ويقرأ هذا الكلام آلاف من المشتركين في صفحته، فانتشار هذا المنشور سيكون واسعا، وتداركه يكاد يكون مستحيلا.
فإذن الأصل في المسلم أن يفعل الخير، فإن لم يستطع فعلى الأقل لا يؤذي غيره، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «المسلم من سلِم المسلمون من لسانه ويده…». [متفق عليه].