رحيل المفكر المقتصد: الشيخ جودة سعيد في ذمة الله

أ. عبد القادر قلاتي/
رحل عن دنيانا الفانية إلى الدار الباقية، فجر يوم الاثنين27 جمادى الثانية 1443هـ الموافق لـ 30 جانفي 2022 الشيخ الزاهد العابد المفكر (المقتصد)، جودت سعيد، الذي عاش حاملاً لفكرة اللاعنف مدافعا عنها، مقتنعا بصوابها، والشيخ جودت نموذج للمفكر الخالص، الذي يعيش الفكر سلوكا قبل أن يعيشه عملية تفكير مستمرة دائمة لتفعيل الأفكار وتسويق نتاجها، فعندما تسمع له تدرك بيسر حالته مع اللغة، حيث التكلّف في الصياغة يُعينه على إبداع الفكرة، وتفاعله مع الأفكار يجعل درجة اللغة عنده أقرب إلى الحديث البسيط الذي يدور في المجالس العامة، منها إلى اللغة الصناعية كما هو الشأن عند المثقفين المبهورين بالأفكار الجاهزة والمستوردة، ممن لحقتهم لعنة الايدولوجيا التي تعمي القلوب التي هي في الصدور، نعم لقد كان الشيخ جودت نسيج وحده، فهو حالة بين «المشيخة» التي منحتها له دراسته في الأزهر الشريف، وبين المفكر الزاهد العابد، الذي حوّل النّصوص والتأويلات والقراءات السابقة من شكلها الجاهز، إلى مشروع يتفاعل مع الواقع ومشكلاته، دون أن يلغي علاقة الواقع بالتاريخ، فكانت أفكار الشيخ جودت لا تخرج عن جدلية: «النّص/الواقع والتاريخ»، ولأنّ الشيخ بدأ حياته الفكرية سلفيًا، متأثرًا بمدرسة ابن تيمية وابن القيم، فقد كان لا يلقي بالاً للمذهبية كخيار دينيّ، بل كان متحررًا من كلّ ذلك، وربما كان هذا الخيار، السبب الرئيس لموقف المشايخ من أفكاره التجديدية التي نسجها خارج أسوار التقليدية الدينية التي ظلّت تتحكم في مسار الفكر الإسلامي لقرون طويلة.
عرفت مجلس الشيخ جودت سعيد ببيته بجبل قاسيون في يوم من أيام عام 1993م، وحضرت المجلس الأول، وكان الشيخ يستشهد بمالك بن نبي، وخصوصا كتبه: «فكرة الإفريقية الآسيوية» وممّا ذكره يومها قوله أنّه فهم القرآن عندما قرأ هذا الكتاب، وتعجبت من هذا القول، فأنا قرأت الكتاب قبل سفري إلى الشام، وأعرف موضوعه، فقلت لمن كان بجانبي لعلّه يقصد كتاب: «الظاهرة القرآنية»، لكن الشيخ راح يسرد نُصوصًا من كتاب «فكرة الإفريقية الآسيوية»، أظهرت أنه يعني ما يقول، ومن يومها وأنا أتابع مجالس الشيخ، لأفهم أفكار بن نبي، الذي كنت أزعم أنني فهمته من قراءتي الأولى.
قصدت بكلمة مقتصد في عنوان المقال، أنّ جودت لم يزعم أنّه مفكر شامل يحمل مشروعا فكرياً، وإنمّا كانت أفكاره قليلة موجزة في عرضها، تتسم بشيء من المرونة والعمق، تستند إلى القرآن والسنة، والتاريخ، وترمي جميعها إلى فكرة شاملة وهي كما كان يردّد: «أنا على مذهب ابن آدم الأول»، ( لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَك إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ) [المائدة: 28]، وعاش الشيخ جودت يدعو لهذه الفكرة ومن أجلها دخل السجن، وحورب من الكثيرين، ممن خالفهم في الرأي، وظلّ يجهر بأفكاره، حتى توفاه الله، رحم الله الشيخ جودت وغفر له وأحسن وفادته وتقبله في الصالحين من عباده.