أبت الدراهم إلا أن تخرج أعناقها/ محمد الصالح الصديق
مر سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه ببنيان بُني بآجر وحصى فقال: لمن هذا البنيان؟ فقيل له: إنه لعاملك فلان، فقال: “أبت الدراهم إلا أن تخرج أعناقها”، وبعث له على الفور من يشاطره ماله.
تذكرت هذا عندما مررت ببنيان فخم ضخم على ربوة ذات قرار ومعين، فسألت عنه رفيقي، وكان من تلك الناحية، فقال: إنه لفلان…!
وفلان هذا كان متوسط الحال، ولما تولى “رئاسة بلدية” من بلديات الجزائر، وأخذ يرتقي شأنه، وتتسع أملاكه، ويذيع صيته، ولم تمض سنتان على توليه هذا المنصب حتى كانت له سيارة فخمة، وبنى هذا القصر المنيف في هذا المكان الجميل…!
فلو سألت أي أحد من أبناء هذه المنطقة عن مصدر هذا الثراء، لأجابك بلا تردد في لهجة المحنق الموتور بأنه الاختلاس الذي أصبح في الجزائر سنة متبعة، والرشوة التي صارت تعطى جهارا نهارا ولا تحفل بالقانون، ولا بمن أنكر، أو وعظ أو حارب.
إن ما يثير العجب والدهشة، أن هذا الخلق السافل الدنيء (الاختلاس) أصبح شائعا إلى حد أنه أصبح عاديا، فبعد أن كان الاختلاس في وطننا الجزائر عيبا يندى منه الجبين، وتنقبض من ذكره النفوس، ويذكر المختلس بأوصاف دنيئة سافلة، صار كل ذلك عاديا، لا يحرك ساكنا، ولا يثير اهتماما.
والذي يحز في النفوس، ويفري نياط القلب أن من يختلس الكثير، يغض عنه البصر، وفي ذلك من التشجيع على هذه الجريمة، مالا يخفى، أما الذي يختلس القليل فإنه يعاقب، فكأنه بهذا العقاب يقال له: لو اختلست الكثير لما عوقبت، ولكن ما الحيلة؟ فغباؤك أوقعك في العقاب.
لقد رأينا من اختلس الملايير ولم يعبأ بشأنه، أما من اختلس ألف دينار فإن عاقبته غياهب السجن بعد عواصف من التشنيع والتشهير.
إن الإنسان إنسان بشرفه وهمته، ومروءته وترفعه عن الدنايا، فهو ما دام بهذه الكماليات يحافظ على كرامته، ويحرص على أن يبقى بإنسانيته ولسان حاله ينشد:
وأكرم نفسي إنني إن أهنتها وحقك لم تكرم على أحد بعدي
ولكن المرء إذا فقد هذه الطبائع يرتمي في الوحل ولا يبالي، ينحط إلى الحضيض ولا يعبأ، ولا يكترث لأنه فقد الإحساس بتعيير أو تعييب، لأن الجانب الذي يحس فيه بكل ذلك قد مات.
إن الإنسان الحي بضميره اليقظ، وهمته العالية، ونفسه الكريمة ينشد مع الأحياء:
لسنا وإن كرُمت أوائلنا يوما على الآباء نتكل
نبني كما كانت أوائلنا تبني ونفعل فوق ما فعلوا
أما صاحب النفس الضعيفة الوافية العاطلة، فإنها تأبى إلا أن تعيش على مائدة الآخرين، ولا ينفع فيها اللوم ولا التأديب، ولا الزجر ولا التأنيب، وقديما قال الشاعر العربي:
إن الغصون إذا قومتها اعتدلت ولا يلين إذا قومته الخشب
قد ينفع الأدب الأحداث في صغر وليس ينفع الشيبة الأدب