مساهمات

من صفات عبد الله بن ياسين الفطرية…الزعيم الديني لدولة المرابطين

د. علي محمد الصلابي/

هو عبد الله بن ياسين بن مكوك بن سير بن علي الجزولي، أصله من قرية «تماماناوت» في طرف صحراء غانة.(لهرفي،1985، ص21) درس على فقيه السوس وجاج بن زلوا، ثم رحل إلى الأندلس في عهد ملوك الطوائف وأقام بها سبع سنين (المجهول،1911، ص191) واجتهد في تحصيل العلوم الإسلامية، ثم أصبح من خيرة طلاب الفقيه وجاج بن زلوا، فعندما طلب أبو عمران الفاسي من تلميذه وجاج بن زلوا أن يرسل مع يحيى بن إبراهيم فقيهاً عالماً ديناً تقياً مربياً فاضلاً وقع الاختيار على عبد اللهِ بن ياسين الصنهاجي الذي كان عالماً بتقاليد قومه وأعرافهم وبيئتهم وأحوالهم.
ودخل عبد الله بن ياسين مع يحيى بن إبراهيم في مضارب ومواطن ومساكن الملثمين من قبلة جدالة في عام 430 هـ/1038م؛ فاستقبله أهلها واستمعوا له وأخذ يعلمهم، فكان تعليمه باللغة العربية لطلبة العلم، والإرشاد الديني للعامة بلهجة أهل الصحراء البربرية، ومن أهم الصفات الفطرية التي ظهرت لي من سيرته:
1 ـ الذكاء:
فكان ـ رحمه الله ـ عميق الفهم، صاحب حجة، يقيم الدليل على خصومه من الفقهاء، والمحليين الذين تحالفوا مع الأمراء والأعيان للقضاء عليه أو طرده.
واختياره لمكان أنسب لتربية أتباعه وتعليمهم يدل على ذكائه وبعد نظره، ويظهر ذلك في حروبه التي خاضها لتوحيد القبائل الصنهاجية، ثم انتقاله للقضاء على المخالفين له في المنهج والمعتقد والتصور.
2 ـ الشجاعة:
حيث إنه دخل الصحراء داعياً إلى الله تعالى، مع أن غيره من تلاميذ أبي عمران الفاسي اعتذروا، وكذلك من تلاميذ وجاج بن زلوا.
وامتاز بشجاعة وصلابة عظيمة في دعوته وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر وفي جهاده، حتى إنه استشهد في إحدى معاركه ضد أعدائه.
فكان شجاعاً عظيم الاحتمال، ومارس أفضل الشجاعة، ألا وهي الصراحة في الحق، وكتمان السر إذ إنه كان قد خطط مع يحيى بن إبراهيم المراحل العملية ولم يتسرب منها شيء لأعدائه حتى أخذت حيز التنفيذ.
والشجاعة في الحق وفي ميادين القتال بالنسبة للمسلم تدل على قوة عقيدته وسلامته من غبش التصور وانحراف المنهج، ومن المعلوم أن صفاء العقيدة يرفع الهمة، وينمي الشجاعة، ويلهب المشاعر، ويذكر الروح، ويربط الفؤاد، وينور العقل، ويوسع المدارك . والعاملون في الدعوة إلى الله ينبغي عليهم أن يكونوا شجعاناً ؛ فهي منه وإليه.
قال تعالى:﴿ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ﴾ [سورة آل عمران:173/174].
وحامل دين الله ينبغي ألا يستكين، ولا يجبن، ولا يخور عزمه؛ لأنه صاحب رسالة مقدسة من عند العليم الحكيم، سار على نهجها رسل الله من قبل، فنصرهم الله وانتقم من عدوهم.(القحطان، 1989،ص20).
قال الشاعر:
إن نفساً ترتضي الإسلام دينا  ثم ترضى بعده أن تستكينا
أوترى الإسلام في أرض مهينا  ثم تهوى العيشَ نفس لن تكونا

في عداد المسلمين العظماء
وكم نحن محتاجون إلى شجاعة الدعاة إلى الله من أمثال الفقيه عبد الله بن ياسين لندك بها الباطل، ونُزيل بها المنكرات الظاهرة، وندمغ الشبهات الخادعة بالنورين كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
قال الشاعر:
وإذا اضطررت إلى الجدال ولم تجد  لك مهرباً وتلاقتِ الصفانِ
فاجعل كتاب الله درعاً سابغاً  والشرعَ سيفك وابد في الميدان
والسُّنَّة البيضاء دونك جُنة  واركب جواد العزم في الجولان
واثبت بصبرك تحت ألوية الهدى  فالصبر أوثقُ عُدةِ الإنسان
واطعنْ بِرمح الحقِّ كُلَّ معاندٍ  لله درُّ الفارسِ الطعان
واحمل بسيف الصدقِ حملة  متجردٍ للهِ مخلص غيرِ جبان
وكم نحن محتاجون للدعاة الذين يتوغلون في مواطن القبائل التي ابتعدت عن إسلامها ودينها وإيمانها؛ ليقودوها من جديد إلى دعم حركة الإسلام المعاصرة التي استهدفها كل من النصارى واليهود والملاحدة والحاقدين.(القحطاني،1998، ص39).
3 ـ المهابة:
ومن الصفات التي ظهرت لي في سيرة عبد الله بن ياسين أنه كان مهيباً قوياً شديداً، فمن الأدلة على قوته البدنية: خوضه الحروب بنفسه وتقدمه في ميدان الفروسية، بل جعل من منهجه الذي ربى عليه أصحابه في هذا الجانب قوله تعالى:
﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ﴾[سورة الأنفال:60] وفسر الرسول صلى الله عليه وسلم القوة في هذه الآية بالرمي بقوله: «ألا إن القوة الرمي»، والرماية إن لم تخرج من ساعد قوي ومتين فهي لا تحقق الهدف المطلوب، وفي السنة نجد القوة البدنية لاقت حظاً وافراً، فالرَّسولُ صلى الله عليه وسلم هو أقوى الأقوياء، وكان يشجع أصحابه رضي الله عنهم على اكتساب هذه الصفة، بل ربما كان يباريهم، ويصارعهم، ويسابقهم، كما تحدّثنا السيرة عن ذلك، يروى مرة أنه تسابق صلى الله عليه وسلم مع عائشة رضي الله عنها مرة، ثم سبقته مرة، وكذلك تحدثنا السيرة عن مصارعته صلى الله عليه وسلم لأحد أصحابه فصرعه.
ومر صلى الله عليه وسلم على صبيان يرمون بالسهام فأخذ يرمي معهم ويشجعهم ويذكي فيهم روح البطولة والشجاعة والقوة، ويقول: «ارموا فإن أباكم إسماعيل كان رامياً».
وهذه الآية والأحاديث الفعلية كانت منهج عبد الله بن ياسين وأصحابه، ولذلك تظهر لنا صلابة وقوة أتباعه في ميادين القتال.
ومفهوم القرآن للقوة عام يشمل كل أنواع القوة، قال السعدي ـ رحمه الله ـ في تفسيره لقوله تعالى:﴿ وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ﴾[سورة الأنفال:60] أي: «كل ما تقدرون، من القوة العقلية، والبدنية، وأنواع الأسلحة، ونحو ذلك».
فدخل في ذلك أنواع الصناعات التي تعمل فيها أصناف الأسلحة والآلات، من المدافع والرشاشات والبنادق، والطيارات الجوية، والمراكب البرية والبحرية، والقلاع والخنادق، وآلات الدفاع، والرأي السياسي، التي يتقدم المسلمون عن طريقها، ويندفع عنهم بها شر أعدائهم، وتعلم الرمي بالشجاعة، والتدبير».
( القحطان، 1989،ص22).
لقد جمع عبد الله بن ياسين ـ رحمه الله ـ من القوة الفكرية أنواعاً متعددة من قوة الإدراك، وقوة الصبر، وقوة العلم، وقوة التلقي، وغيرها من القوى.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com