الاتحــــــاد والتعــــــاون

أد. مولود عويمر/
يجد القارئ في هذه السلسلة نصوصا قديمة متجددة حررها العلماء والأدباء الجزائريون حول قضايا عصرهم واهتماماتهم العلمية والأدبية والفكرية والسياسية الوطنية والعالمية. وحوت هذه النصوص المرجعية للفكر الجزائري المعاصر معينا غزيرا يغرف منه الباحثون المشتغلون على تاريخ الجزائر في القرن العشرين والدارسون لذخائر تراثنا. وألتزم هنا قدر الامكان بنشر الآثار المغمورة أو المتداولة بشكل محدود لننفض الغبار عنها ونحيي جهود أصحابها الذين لم ينصفهم دائما الباحثون لأسباب مختلفة. وأمهد في كل مرة بترجمة موجزة لصاحب النص، وبيان سياقه العام وعرض مختصر لمضمونه، وتعريف مقتضب للمصدر الذي اقتبست منه، وهي في غالب الأحيان عبارة عن جرائد ومجلات قديمة تعتبر في حد ذاتها وثائق مغمورة أو نادرة. |
تقديم النص:
صاحب النص هو الشيخ إبراهيم أطفيش المولود في بلدة بني يزقن بوادي ميزاب في 14 صفر 1306 هـ الموافق لـ 20 أكتوبر 1888 م. درس في حلقة العالم الشيخ محمد بن يوسف أطفيش العلوم العربية والإسلامية. وأتم حفظ القرآن وهو ابن 11 سنة. انتقل إلى مدينة الجزائر ولازم دروس العالم الشهير الشيخ عبد القادر المجاوي.
وفي عام 1917 سافر إلى تونس لمواصلة تحصيله العلمي في جامع الزيتونة. واهتم كذلك بالسياسة واتصل بالزعيم عبد العزيز الثعالبي ورفاقه وساهم معهم في تأسيس الحزب الدستوري التونسي في عام 1920. ونظرا لنشاطه السياسي ومناهضته للاستعمار نفته سلطة الاحتلال الفرنسية في عام 1923 إلى مصر حيث وجد كل الدعم من رجال الفكر والسياسة المصريين أو المقيمين في مصر. واشتغل مصححا بدار الكتب المصرية وشارك في نشر بعض المخطوطات النفيسة.
كما كان له نشاط دائم في مجال الفكر والدعوة ومساهمة في الصحف والمجلات العربية المعروفة آنذاك، وعمد كذلك في عام 1925 إلى تأسيس مجلة إصلاحية سماها “المنهاج” على غرار كبار رجال الإصلاح أمثال محمد رشيد رضا ومحب الدين الخطيب ومحمد الخضر حسين وعبد الحميد بن باديس وغيرهم من العلماء الذين حرصوا على تأسيس المجلات لنشر أفكارهم الإصلاحية وآرائهم العلمية والسياسية ومواقفهم تجاه قضايا عصرهم.
ودامت هذه المجلة 4 سنوات وصدر منها 17 عددا بغير انتظام. وكانت تعنى بالموضوعات العلمية والدينية والتاريخية والسياسية وتعرّف المشارقة على أحوال المغرب العربي. وكانت توزع في الجزائر رغم خطها التحرري الواضح، ولم تنتبه سلطة الاحتلال إلى خطورتها إلا بعد فترة. ثم أصدرت قرارا بمنعها وعدم السماح بتوزيعها في الجزائر.
توفي الشيخ أبو إسحاق أطفيش بالقاهرة بمصر في 20 شعبان 1385 هـ الموافق لـ 13 ديسمبر 1965. ومن آثاره، أذكر هنا: الدعاية إلى سبيل المؤمنين، النقد الجليل للعتب الجميل، الصوم بالتلفون والتلغراف، وتحقيق عدة كتب التراث الإباضي مثل: تحفة الأعيان في سيرة أهل عُمان، وجامع أركان الإسلام لسيف بن ناصر الخروصي…الخ.
النص الذي بين أيدينا نشرته مجلة المنهاج في الجزء الأول والمجلد الأول الصادر في غرة محرم 1344 ه الموافق ل 1 أوت 1925 م. وأصل النص كان محاضرة قدمها الشيخ أبو إسحاق إبراهيم أطفيش في “جمعية تعاون جاليات شمال إفريقيا”. وهذه الجمعية تأسست في القاهرة في جوان 1924 من طرف نخبة من المثقفين والعلماء المغارب من أمثال الشيخ محمد الخضر حسين، طاهر محمد التونسي، عبد العزيز قاسم المغربي ومحمد الرزقي الشرفاوي الجزائري، ومحمد التهامي نصر الليبي، …الخ.
وكانت هذه الجمعية تهدف إلى توحيد صفوف المغارب الذين كانوا يعيشون في مصر والتعارف فيما بينهم والتضامن مع قضاياهم المشتركة والدفاع عن حقوقهم والتعريف بالتراث الفكري والعلمي المغاربي في المشرق العربي. لذلك نظمت عدة محاضرات في هذا المجال ومنها محاضرة الشيخ أطفيش التي ننقلها هنا للقراء كما وردت في مجلة “المنهاج”. ولابد من الإشارة إلى أن المحاضرة نالت الاستحسان والقبول وأعادت عدة صحف نشرها سواء في مصر أو خارجها وأذكر منها جريدة “المنتقد” لصاحبها الشيخ عبد الحميد بن باديس التي أعادت نشرها ليطلع عليها القارئ الجزائري.
في الاتحاد والتعاون
«إن حياة الأمم والشعوب والأحزاب لها أمور تتوقف عليها إلا أن بعضها ضروري وهو كالأساس للبناء المشيد الثابت الأركان، فبسواها لا تستقيم حياتها ولا تثمر نتيجة لجهودها فالأمران الأساسيان هما الاتحاد والتعاون ما ظهرا في أمة إلا ونالت مبتغاها من العظمة والكمال واقتعدت مقاعد العز والجلال وكان لها القدح المعلى في كل مجال.
الاتحاد والتعاون أمران أساسيان لكل عمل تحتاج إليه الهيئة الاجتماعية وهما عنوان الإخلاص وحليفاه لا يوجدان في نفس إلا وكانا معه ولولا هما ما رأينا لشعب من الشعوب ظهورا ولا قوة ولا سلطانا ولا انتظام شمل.
إليهما تشير عدة آيات في كتاب الله العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه كقوله سبحانه: {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا}. فالتعارف يقتضي التعاون فيما يتناول الطرفين من المصالح وإلا فلا وجود للتعارف الحقيقي.
وتصرح أخرى بهما كقوله سبحانه وتعالى: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً}. وقوله عز شأنه: { وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}. فالآيتان [تؤكدان] ضرورة التعاون وإنه لا ينتظم أمر المعاش ولا يجتمع شمل الأمة إلا بهما.
إن الشعوب الإسلامية لتشعر بشدة الحاجة إلى كل ما يفيد جامعتها، وتشعر بفقر عظيم إلى جمع شتاتها وإلى قوة ترأب بها صدعها، وتحمي بها نفسها من كل غائلة ومن كل ما يهدم الشرف التليد الذي ورثته جيلا بعد جيل.
نعم الشعوب الشرقية- كما يقولون- من أذکی الشعوب وأقدرها على تكوين المعدوم من طاقة البشر بيد أنه يفقدها التضامن والمناصرة والتعاون على كل ما يحتاج إليه المجموع.
ولو فقدت هذه الصفات الحميدة الضرورية لكل أمة، من الشعوب الناهضة العاملة على مرأى ومسمع منا لما قامت لهم حضارة ولا شاهدنا تلك الآثار الباهرة والأعمال الفاخرة.
إن شعوب شمال إفريقيا اجتمعت لأول مرة كتلة واحدة بعد أن كانت متباعدة بل كانت لا تعرف ما هو الالتفاف حول كلمة واحدة.
فما على هذه الكتلة إلا أن تعمل ما يفيد أبناء أوطانها الذين هم أمة واحدة تجمعهم رابطة واحدة عظيمة إذا تمكنت من النفوس استعصى انفكاكها على كل قوة تحاول فصمها، ألا وهي رابطة الإسلام، ثم كذلك رابطة اللغة ورابطة الجنس. فبالاتحاد والتعاون بلغت الأمم مراقي السعادة ونالت على غيرها عظمة السيادة.
إننا نشاهد بحواسنا أن كل عمل في هذه الحياة لا بد أن يكون حاصلا من بين اثنين فصاعدا لأن الضرورة داعية إلى الاستعانة.
فكل من أفراد البشر يجد تمام حاجته عند آخر لأن الناس مطبوعون على النقصان ومضطرون إلى إتمامه ولا سبيل إلى التتميم بدون التعاون.
فالضرورة داعية إلى حال تجمع وتؤلف بين شتات الأشخاص ليصيروا بالاتفاق والائتلاف كالشخص الواحد الذي تجتمع أعضاؤه كلها على الفعل الواحد النافع له.
من لم يدرك ضرورة التعاون لا يدري كيف يحافظ على واجباته الخاصة فكيف بالواجبات العامة، ولا يدري كيف يعيش في وسط من الأوساط.
بالاتحاد والتعاون نرى أمامنا أمما تأتي بوسائل العمران واختراع مواد الحياة ما يندهش له الضعيف حتى يشك في قواه العقلية كأنها لم تخلق لما يراه ولم يؤت ما أوتي أولئك من قوة الفهم والتفكير. ذلك لانصراف أفكارهم إلى كل ما يقتضيه تنازع البقاء وحفظ الجامعة القومية من كل انحلال واعتداء.
لسنا معشر المسلمين فقراء إلى ما يملي علينا قوة الإرادة وصدق العزيمة وما ينمي فينا القوى العقلية. لنا بواعث كثيرة وكبيرة. بل القرآن كاف لإيجاد الملكات الباعثة إلى المفاخر وكسر قيود الشقاء والاندفاع إلى كل عمل تسعد به الهيئة الاجتماعية أو الجامعة العامة.
وإنما نحن فقراء بسبب الإهمال وترك العمل بمقتضیات ذلك إلى قوتين عظيمتين هما قوتا الاتحاد والتعاون فمن أهملهما فقد ضيّع مجده ومن كان لمجده مضيعا كان لغيره أضيع.
لو نظرت الأمة الإسلامية إلى الصدر الأول الذي كانت فيه متجهة إلى جهة واحدة وهي نشر عظمة الإسلام بين الأنام، ولها غاية واحدة وهي الفوز الأكبر باتحاد ومناصرة وتعاون بدون أن تعتبر الفروق التي بينها حواجز لما اعتورها ما يشاهد الآن من الانفكاك والانحلال اللذين كادا يذهبان بها أيدي سبا (لا قدر الله).
وأرى أن هذا هو معنى قوله عز وجل {وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً}.
أصبحت الشعوب مرتبطة ببعضها ارتباط الأفراد، كل يستمد من الآخر ويستعين بمواهبه إذ الاتحاد والتعاون هما أساس العمران وركن سعادة الأمة. فكل شعب بل كل قبيلة انحطت مدارك أفرادها إلى حد انقطاع كل منهم إلى ما يخصه فقط بدون أن يشعر بالحاجة العامة التي تستدعيها هيئته الاجتماعية وتقتضيها بيئته فإنها تكون عرضة للنهب وطعمة للأخطار.
كل قوة ظهرت في أمة فهي نتيجة رقي اجتماعي سواء كانت قوة سياسية أو علمية أو اقتصادية.
إن مسألة التعاون لم تقف عند كونها بين أفراد شعب واحد بل تجاوزت إلى حد أن أصبحت محط أنظار ساسة الأمم ونقطة الاتجاه إذ كشفت الحال ولا سيما بعد الملحمة العظمى أنه لا تصلح حال الأمة ولو بلغت من القوة المبلغ الأعظم إلا بالتعاون مع الأخرى والاستمداد من قوتها، فما أشد حاجة أبناء الأمة الواحدة والوطن الواحد إلى التضامن والاتحاد على ما يعود عليهم بالسعادة، وما أحوجهم إلى التعاون. وما كان يوما أحد من الناس مستغنيا عن أخيه في حاجة تخصه فكيف بما يشمله وأمته ويلجأه إليه ارتباطه بها وتمليه عليه المصلحة المشتركة.»