حديث عابر عن الكتابة والنقد/كمال أبوسنة
يقول الشهيد الـمفسر الأديب سيد قطب -رحمه الله-:”عندما نعيش لذاتنا فحسب، تبدو لنا الحياة قصيرة ضئيلة، تبدأ من حيث بدأنا نعي، وتنتهي بانتهاء عمرنا المحدود!
أما عندما نعيش لفكرة، فإن الحياة تبدو طويلة عميقة، تبدأ من حيث بدأت الإنسانية، وتمتد بعد مفارقتنا لوجه الأرض”.
إن الذين يكتبون ويحيون من أجل فكرة مسمومة، لدنيا يصيبونها، محكوم عليهم أن يعيشوا حياة قصيرة لا تتعدى إلى ما بعد موتهم المحتوم، ولن تعيش أفكارهم أكثر من حياتهم، لأن الأفكار الـميتة وُلدت لتموت!
أما الذين سيُكتب لهم الخلود، مع الذكر الحسن، هم الذين يخطون الحرف لفكرة سليمة، تكسب خلودها من خلود “الحق”، بحيث هؤلاء الكتاب لن يموتوا وإن اندثر عنصرهم الترابي.
لقد ظهر في عصور متلاحقة فئة من الشعراء احترفوا مهنة المدح عند الـملوك، والخلفاء، والأمراء، والأسياد، والزعماء، لنيل رضاهم، والتزلف إليهم، والأكل من فتات موائدهم، والحصول من مغانمهم!
اقرأ مدح ابن هانئ الأندلسي للخليفة الفاطمي الـمعز تجده يفوح نفاقا رخيصا من أجل أغراض خسيسة، ومما قاله مادحًا:
ما شئت لا ما شاءت الأقدارُ
فـاحكم فأنت الواحد القهارُ
وكأنـما أنت النبي مـحمدٌ
وكأنـمـا أنصارك الأنصارُ
هذا إمام الـمتقين ومن بـه
قـد دوّخ الطغيان والكفارُ
هذا الذي تُرجى النجاة بحبهِ
وبه يُحـطّ الإصر والأوزارُ
هذا الذي تُجدي شفاعته غدًا
حقا وتـخمد أن تراه النـارُ
يُروى أن الخليفة عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – عاقب الشاعر الهجاء “الحطيئة” الذي كان رجلا جشعا كثير الشر، خبيث النفس، وهدده بقطع لسانه إن هو مضى في هجائه القبيح للناس، ونيله من أعراضهم…والحق أن مداحي الـملوك والزعماء كذبا وزورا هم أولى بقطع ألسنتهم التي تزخرف الباطل، وتجمل الشر..!
إن الكتابة بشتى فنونها رسالة بناء، والكاتب الذي يحمل القلم رسول الكلمة المسؤولة التي تبني ولا تهدم، فإن هان، أو خان، أو مال، أو انحنى، أصبح معول هدم للحق والحقوق..!
من الطرائف المروية عن حياة راهب الفكر الأديب الكاتب المصري توفيق الحكيم – وهو في خريف العمر – أن حفيدته المدللة طلبت بإلحاح منه أن يكتب لها موضوع إنشاء حول أضرار المخدرات، فما كان من الشيخ الأديب إلا الإذعان لتوسلاتها المتكررة… وقام بكتابة الموضوع نيابة عنها… فظنت الطفلة البريئة أنها ستتحصل بسهولة على أعلى علامة في قسمها، بل وفي المدرسة كلها…كيف لا، وكاتب الموضوع الإنشائي جدها الأديب الكبير، وصاحب القلم الذي يُشهد له بالعظمة في المشرق والمغرب…
بيد أن ظن الحفيدة خاب بمجرد أن أعادت المعلمة ورقة الموضوع الإنشائي إليها، إذ تحصلت على أربع نقاط من عشرين…أو بالأحرى تحصل توفيق الحكيم على أربع نقاط من عشرين…
والطريف في الأمر أنه مات دون أن يعلم بالقصة، ولو علم بها لكسّر القلم، وطلق الكتابة إلى الأبد…!!
بعض النقاد في بلادنا يشبهون إلى حد كبير هذه المعلمة “المغبونة ” بل ويفوقونها في هُزال أحكامهم النقدية الغريبة البعيدة كل البعد عن قواعد وأصول النقد الأدبي الموضوعي العلمي الذي يقول للمحسن أحسنت، وللمسيء أسأت دون مداهنة أو مهادنة…!
والغريب أن كثيرا من نقادنا – مجازا – قد حوّلوا النقد إلى تجارة مربحة لهم، الخاسر الوحيد في هذه العملية هو الكاتب والمبدع الحقيقي صاحب الأعمال الجادة والجيدة، فهؤلاء “النقاد” يروجون للأعمال الضعيفة والساقطة على حساب الأعمال القوية والهادفة، ولا يهمهم إن كانوا سببا في رفع ما لا يجوز في حقه الرفع، وخفض ما لا يجوز في حقه الخفض…!
إن الطمع داء عضال إذا أصاب النفوس نزع عنها لباس الكرامة والعزة والصدق، وكساها –بدلا عن ذلك- لباس الذل والمهانة والنفاق، ولا عجب بعد ذلك إذا أصبح أصحابها باعة في سوق النخاسة يعرضون للبيع كل شيء، حتى كرامتهم و… ولله في خلقه شؤون!
إن هؤلاء النقاد المأجورين من أخطر الأدواء التي تنخر جسم الثقافة المريضة عندنا..فمتى يتم القضاء على المكروبات الثقافية؟!