قضايا و آراء

القدس/ محمد الحسن أكـــيـــلال

 

 

 

كاتب سعودي في محاضرة يقول: إن مكانة القدس عند اليهود كمكانة مكة والمدينة عندنا نحن المسلمين، فلماذا نحرمهم منها؟ دعوة هذا الكاتب لاشك أن ملايين العرب سمعها وهو يتفوه بها بملء فمه، لأن المحاضرة نقلتها قناة الجزيرة بالصوت والصورة وقد كان هذا في الأيام القليلة الماضية.

قبله، نقلت الفضائيات العربية والغربية تصريحا لإمام المسجد الحرام الداعية “عائض القرني” وهو يقوم بزيارة إلى الولايات المتحدة الأمريكية مفاده أن الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة العربية السعودية هما فقط من يصنعان السلام في المنطقة والعالم.

الرجلان يمثلان زبدة النخبة المثقفة في المملكة العربية السعودية وثمرة النجاح الذي حققته الدعاية الصهيونية في هذا القطر الشقيق الذي ولد فيه سيد الخلق أجمعين محمد صلى الله عليه وسلم وولد فيه الخلفاء الراشدون وكل صحابته أجمعين رضي الله عنهم.

في هذا البلد الذي تهفو إليه أفئدة المسلمين في كل عام من مشارق الأرض ومغاربها نزلت رسالة السماء، آخر الرسائل السماوية لتصحح ما قبلها مما لحق بها من تزوير وتحريف، كان لليهود اليد الطولى في ذلك. وقد أسهب الله عز وجل بالتفصيل في وصف هؤلاء كما أسهب في الحديث عن جرائمهم في حق الأنبياء والرسل عليهم السلام.

وفي هذا القطر الشقيق تفتقت عبقرية أحد أبنائه في صياغة مبادرة السلام كخيار استراتيجي بين العرب والصهاينة المحتلين لأرض فلسطين وطرحها أمام قمة زعماء قبائل العرب البائدة والعاربة والمستعربة في بيروت عام 2002 وبصموا عليها بالإجماع أملا في إرضاء الصهاينة والأمريكان والإمبريالية العالمية، والغريب أن أهم زعيم يهمه الأمر الذي أفتوا فيه كان مغيبا قسرا من طرف العدو الصهيوني، بل كان محاصرًا في قصره في رام اللـه بالدبابات والجنود المدججين بأفتك الأسلحة يدكون بها أسوار المقر، وكانوا عازمين على قتله في ذلك اليوم لولا تدخل أصدقائهم لا لمنع الجريمة ولكن لمنع تداعياتها وانعكاساتها وآثارها في العالم.

 

لقد كان الجواب الصريح من طرف العدو في جملتين قصيرتين جدَّا أولاهما رفض المبادرة جملة وتفصيلا، وثانيهما محاصرة الرئيس “ياسر عرفات” ومنعه من حضور القمة؛ ومع ذلك لم تهتز للزعماء العرب قصبة على قول الشاعر الصديق “مظفر النواب”:

الذئبة حتى الذئبة تحرس نطفتها

والأرضة حتى الأرضة تحرس نطفتها

أما أنتم أبناء…فلا تهتز لكم قصبة

 

 

للعرب في عام 1936 عذرهم في عدم نجدة الشهيد “القسام”، ولهم عذرهم في عام 1948 في عدم القدرة على مواجهة قرار الأمم المتحدة، لكن لا عذر لهم في أعوام 1956 و 1967 و 1973 في عدم تدعيم الجيش المصري والشعب المصري والرئيس المصري الراحل المرحوم “جمال عبد الناصر” الذي واجهوا سعيه للوحدة العربية بأشكال مختلفة من الرفض والتآمر حتى وصل به الحال إلى الموت حسرة وغضبًا للأسباب المعروفة (سبتمبر الأسود 1968).

إن قرار الرئيس الأمريكي “ترمب” القاضي بإعلان القدس الموحدة عاصمة للكيان الصهيوني ونقل سفارة بلاده إليها لم يأت عبثا ولا من عدم ولا وليد لحظة نشوة الفخر بقدرته الفائقة والفريدة على الحسم في القرارات المؤجلة المتراكمة في مكتب الرئيس في البيت الأبيض، بل هو قرار مدروس ومعد له مسبقا، بل هو في صميم الاستراتيجية الموضوعة منذ عقود من الزمن، بل ويستند إلى قرار الأمم المتحدة القاضي بمنح أرض فلسطين وطنا قوميا لليهود وترك ما يتعلق فيه بالشعب الفلسطيني غامضا يقرأ في مابين السطور.

إن ما فعله “ترمب” ليس إلاّ تنفيذًا لما تقرر وأجل، بل وأكثر من كل هذا لم يتخذه إلاّ بعد استشارة واسعة مع أهم الزعماء العرب الذين يعتبرهم الأكثر تأثيرًا في قادة الأنظمة العربية لأسباب ووسائل كثيرة لا داعي لذكرها، فهؤلاء الزعماء وعلى رأسهم ملك المملكة العربية السعودية لم يكتف بالتهنئة والتبريك له بمناسبة انتخابه، بل دعاه للتكريم والتشريف في الرياض في مؤتمر قمة إسلامي سماه التحالف العربي الإسلامي وأبلغه رأيه في القرار الذي سيتخذه فيما يخص الحل للقضية الفلسطينية، وما الزيارات المتكررة لصهره “كوشنر” الذي يقال عنه أنه الأقرب إلى “نتانياهو” منذ طفولته إلاّ للتأكيد على قبول كل ما كتب في الملف الذي أعده حول القضية.

إن القرار سبقته اتصالات سرية بين السعودية والإمارات العربية المتحدة بقادة دولة الكيان الصهيوني، والإمارات العربية المتحدة لم تكتف بالاتصالات هذه، بل تعدتها إلى المشاركة في مناورات عسكرية مشتركة في البحر الأبيض المتوسط، وأكثر من كل هذا تشكل تحالفا عربيا لتدمير اليمن وتفكيكه واحتلال بعض موانئه المطلة على البحر الأحمر تمهيدًا لوضعها تحت تصرف دولة الكيان الصهيوني التي ترى أن هذه المواقع ضرورية لها للسيطرة على البحر الأحمر ومضيق باب المندب بعد أن تضع الحرب أوزارها في كل من العراق والشام ويفي النظام المصري بوعوده فيما يتعلق بصحراء سيناء وقبول الأردن بحفر قناة ملاحية جديدة ما بين القرن الشرقي للبحر الأحمر والبحر الأبيض المتوسط مرورًا بالبحر الميت، وبالنسبة لمصر فقد تنازلت على جزيرتين لها للمملكة العربية السعودية رغم أنف البرلمان المصري تمهيدًا للاتفاقيات القادمة مع دولة الكيان الصهيوني.

عمل كبير تم إنجازه لتهيئة الظروف الملائمة للتطبيع مع دولة الكيان الصهيوني وتنفيذ مبادرة السلام كخيار استراتيجي بعد تعديلها وفق الشروط الصهيونية، كل هذا أعطى للرئيس “ترمب” الشجاعة لاتخاذ القرار، ولأنه رجل أعمال وبزنس فهو تصرف مع القضية تصرف رجال الأعمال دون اعتبار لما تفرضه عليه السياسة وما ينجر عنه من تداعيات أهمها قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الأخير بعد استعماله لحق الفيتو في مجلس الأمن.

“ترمب” لم يكن يتصور أن الشعوب العربية والإسلامية سيكون لها كل التأثير على الرأي العام العالمي بالحجم الذي رآه. “ترمب” رجل أبيض عنصري معتقد أشد الاعتقاد لترهات وخرافات الكنيسة الإنجيلية المعمدانية التي يتبعها في بلاده أكثر من سبعين مليون مسيحي هم من وقف وراءه في انتخابه وهم الذين يمثلون العقيدة الصهيونية الحقيقية أكثر من اليهود، فهم يرون أن تمكين اليهود من أرض فلسطين سيقرب الحرب المقدسة بينهم وبين المسلمين، والتي هي بدورها تقرب ظهور المسيح الدجال.

إن القدس على عكس ما يظن هؤلاء ستكون الصخرة الصلبة التي تتكسر عليها كل أسلحة الإمبريالية الصليبية الصهيونية في القريب العاجل إن شاء الله.

 

 

 

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com