البصائر في حوار مع عالم الاجتماع الفلسطيني الدكتور ساري حنفي
أجرى الحوار: عبد القادر قلاتي
مايزال سؤال النهضة والتقدم يهيمن على مجمل الخطاب الفكري العربي الاسلامي، من خلال ما قدم ويقدم اليوم من مقاربات تجعل المتلقي العربي ينتظر دائما، الاجابات الاكثر واقعية والأكثر اتساقا مع ملامح الحداثة الغربية وطغيانها البارز، فلا نكاد ننسجم مع إطار فكري، حتى يظهر ملمح جديد ينسخ ما قبله ويسوق لما هو آت، فبين التأصيل والأسلمة والتقريب، ضاعت جهود كبيرة في صناعة حداثة ذاتية معبرة عن الخصوصية الحضارية، لهذه الجغرافيا المترامية الاطراف من طنجة إلى جاكرتا، كما يعبر مالك بن نبي عن العالم الاسلامي، وربما يأخذ هذا الاطار أوذاك ملامح مدرسة متميزة بآلياتها الفكرية والتنظيرية كما هو الشأن بالنسبة للمعهد العالمي للفكر الاسلامي مثلاً، لكن هذه التجربة التي اتخذت منحى الاسلمة طريقا للنهوض الفكري، سرعان ما أصابها الركود، والانحسار، لتبقى الساحة الفكرية العربية والإسلامية خالية من أي مشروع فكري واضح المعالم وبيّن الأهداف، سوى بعض التجارب المشبوهة التي تشتغل وفق أجندات سياسية خالصة، وليست فكرية أو معرفية. حول جدل الاصالة والحداثة والتجديد، والخروج من نفق الركود الثقافي والحضاري، هذه إجابات لعالم الاجتماع الفلسطيني الدكتور ساري حنفي أستاذ علم الاجتماع بالجامعة الامريكية بيروت ورئيس الجمعية الدولية لعلم الاجتماع، من خلال هذا الحوار الذي خص به قراء البصائر وهذا نص الحوار…. |
البصائر: نبدأ حديثنا حول كتابك الأخير الموسم بـ”علوم الشرع والعلوم الاجتماعية: نحو تجاوز القطيعة”، حيث صدَّرته بـ”قصة هذا الكتاب” والخبرة التي مكّنتك من بناء تصور للموضوع عبر مراحل زمانية مختلفة، هل يمكن أن تلخص لنا هذا القصة كبداية لهذا الحوار؟
ساري حنفي: تبدأ قصةُ هذا الكتاب من تجربتي الشخصية ومروري بأنظمةٍ معرفيةٍ مختلفةٍ أغنتني شخصيًّا. لقد شعرتُ بحجم الشروخ بين نخبٍ تتخاصم وفي أحسن الأحوال تتجاهل الواحدة الأخرى ولا تتحدَّث معها. لقد نشأتُ في عائلةٍ متدينةٍ ومحافظةٍ في أحياء مدينة دمشق ومخيمها (مخيم اليرموك). حضرت دروس دينية منذ نعومة أظفاري في السبعينيات من القرن الماضي. وقد كنتُ فضوليًّا، حتى إنَّني كنتُ أحضر لمشايخ ينتمون لمدارس مذهبية وفكرية متناقضة، مثل الشيخَيْن محمد سعيد رمضان البوطي (2013-1929) ومحمد ناصر الدين الألباني (1999-1914) -رحمهما الله – وكان الخلاف يشتدُّ بينهما وبين جماعتيهما، لدرجة الكُره والتكفير في بعض الأحيان. وأذكر أنّ البوطي نعت الألباني بـ “الأعجمي”، مشيرًا إلى أصله الألباني. إلَّا أنّ وعيي بالفكر الإسلامي بدأ يتطوَّر مع القراءة لمالك بن نبي أولًا، وجودت سعيد، ومحمد عمارة، ومحمد قطب، وسيّد قطب، وسعيد حوى. وبالطبع، فإنّ وعيي السياسي المزدوج -ضد استبداد النظام السوري وكولونيالية المشروع الصهيوني الإسرائيلي – قد جعلني أنخرط تنظيميًّا وفكريًّا في مجموعاتٍ سياسيةٍ أقرب وصفٍ لها هي أنَّها يسارية. وهناك قرأتُ بنَهمٍ لمحمد عابد الجابري، وحسن حنفي، ومحمد أركون، ثمّ عبد الله العروي، وهشام جعيط، ومنير شفيق، وميشيل فوكو، وآخرين. ومع ذلك، فلم أقطع مع بعض الشخصيات الإسلامية، حيث لعبتُ دورًا في الترويج لأفكار بعض مفكِّري اليسار المهتمين بالتراث العربي-الإسلامي.في ذاك الوقت لقد زاوجنا معًا بين دراستي للهندسة المدنية وعلم الاجتماع، وهذا بشكل غير شرعيٍّ، حيث يمنع نظام الجامعة من الجمعِ بين اختصاصَيْن في آنٍ واحدٍ. لم أكن أبحث آنذاك عن فهم العالم فقط، ولكن أسعى لتغييره (كما هي مقولة ماركس الشهيرة).
في هذا السياق، شعرتُ بالشروخ العميقة و”التكفيرية” بين النُّخب اليسارية (وغالبًا بين باحثي العلوم الاجتماعية والإنسانية) من جهة، والنُّخب الدينية من جهة أخرى. وسيأتي الربيع العربي ليُظهر هذا الشرخَ بشكل فاقع، ممّا جعل بعض اليساريين يلجؤون للجيش لتخليصهم من الصعود الشعبي للحركات الإسلامية، لتصبح القطيعة دمويةً (مصر مثلًا). وذلك على عكس محاولة الكثيرين الإشارة إلى دور القوى الخارجية في هذا الصراع. ومن ثَمَّ يبدو أنّ هذا الانفصال موجودٌ بموافقة ضمنيَّة من كلا الفريقين.
من خلال كتابك قدمت ما تراه بديلاً لتلك المشاريع التقريبة القائمة على فكرة التأصيل والأسلمة، منهج “الفصل والوصل والفعل التعددي” ماذا يعني هذا المنهج في ظلّ التباين الواضح بين الحقلين الديني والسوسيولوجي؟
– رغم أهمية تأصيل أي معرفة وربطها بسياقها الثقافي ولكن يجب أن لا يكون ذلك بدون احترام كونية بعض المفاهيم العلمية، وإلا تتحول عملية التأصيل الى سياسات هوية. أطروحتي هي تبني منهج “الفصل والوصل والفعل التعددي” بديلًا لأسلمة المعرفة. لقد استفدت من الفيلسوف المصري سمير أبو زيد في منهج “الفصل والوصل” وقد طوّرته بشكل أكثر تعقيدا. المنهج يحترم ابستمولوجية علوم الشرع وابستمولوجية العلوم الأخرى، وذلك لضمان موضوعية العلم، وفي الوقت نفسِه نظرة الذات إلى العالم، فلا تطغى الجوانب الاعتقادية والدينية على العلم، ولا يتجاوز العلم حدودَهُ الإبستمولوجية على حساب الجوانب المعيارية الأخلاقية المستمدَّة من الدين (وغيره). ولا يتعلَّق هذا بالعالم الإسلامي فقط، ولكن بأي سياقٍ ثقافيٍّ أو دينيٍّ. ولا يكون منهج “الفصل والوصل” على مستوى مفهوم العلم العام ولا حتى على مستوى الاختصاص العلمي فقط، وإنّما على مستوى الموضوع العلمي المحدَّد. ويقوم هذا المنهج على أربعة خطواتٍ أساسية: الأولى، تحديد الموضوع العلمي محلّ البحث: فإذا كان قضية علمية بحتة تُستخدم المناهج العلمية الخاصَّة بمجاله، وإذا كان قضية علمية دينية مشتركة ننتقل إلى الخطوة التي تليها، الثانية، تحليل الموضوع “العلمي-الديني” المشترك إلى قضية علمية وقضية دينية كل في مجالها، بشكل كامل، أما الثالثة فهي إنشاء علاقة بين القضيتَيْن، بناء على نظرة إلى العالم السائدة في مجتمع ما والتي يمكن أن تكون متعدِّدة. وأخيراً اختيار فعل تعددي حسب المستهدف (مثلا، المؤمن أو المواطن).
كشفت الأجواء السريالية لوباء كوفيد -19 خطوط الصدع في الثقة بين البشر والدول؛ بين المواطنين والحكومات، وهي تدفعنا إلى طرح أسئلة كبيرة حول أنفسنا وعلاقاتنا الاجتماعية والحياة بوجه عام. |
لأشرح ذلك من خلال مثال. لنأخذ قضية حصة المرأة في نظام الإرث. بالنسبة للفقهاء، هناك آية كريمة نزلت حول توزيع إرث الإنسان. بالنسبة لآخرين، اعتبر أن هناك شكلا من أشكال التناقض بين طريقة التوزيع مع قيم عزيزة أخرى على الإسلام (وكل الديانات والليبرالية) كالمساواة، العدل… في تونس كان هناك جدل هام حول هذا الموضوع وانتهى أولئك الذين يدعمون الحفاظ على التفسير السائد للنَّص القرآني ونظرائهم من هم مع المساواة الجندرية في توزيع الإرث الى استخدام حجج لها نفس البنية المعرفية والتبريرية (استخدام حجج نصية وقانونية وسوسيولوجية) (يمكنكم العودة الى مقالتي حول هذا الموضوع نشرت في مجلة عمران (العدد 32 أفريل 2020) بعنوان: ما وراء الديانية والعلمانية: نقاش الميراث والمساواة بين الجنسين في تونس وتشكل التفكير غير الاستبدادي). بعد ما قام كلّ من الطرفين باستخدام مناهج مختلفة (أي قام علماء الشرع بالنظر الى مصادرهم المعرفية، وقام علماء الاجتماع بالنّظر إلى تبعات تمييز الجندر على العلاقات الاجتماعية والاقتصادية في المجتمع بعمل أبحاث ميدانية وسبر آراء النّاس) ومن ثمَّ تمَّ الوصل من خلال حجج. تأتي بعد ذلك قضية الجدل في المجال العام ونشر النتائج، وهي المرحلة الثالثة أي الفعل التعددي؛. هذا الفعل الذي يعكس جدل المعضلة الأخلاقية والبحث عن التوافق المعقول (وليس العقلاني فقط، فالمشاعر تؤثر كثيرا أيضا) بين الفضيلة وحسن العاقبة. والمقصود بالتعددي هو لمن نوجه الفعل. فالجمهور متعدد، منهم المواطن ومنهم المؤمن. إذ أنَّ الحجج (التبرير) التي تقدم للمواطن الذي ينتمي الى مشارب ثقافية ودينية غالبا ما تكون مختلفة عمّا يقدمه الداعي إلى المؤمنين. ففي الحالة الأخيرة يمكن له أن يكتفي باستجلاب نص قدسي وتفسيره. لقد جاء الفعل في تونس على شكل جدل سلمي في المجال العام والذي أدى إلى تقريب في وجهات النّظر من خلال قبول الطرفين أنَّه مهما كان التشريع المدني راجحًا لطريقة ما في توزيع الإرث فإنَّه يمكن للطرف الآخر اختيار الطريقة الأخرى. وإذا كانت هناك آليات ديمقراطية لحسم الخيارات بما تختاره الأكثرية (غالبا على شكل تشريعات مدنية)، فإنَّه يمكن للداعي الدعوة بخياره الديني للمؤمنين وتوثيقه على شكل فقه وفتاوى. ويمكن الذهاب أبعد من ذلك إلى تبني التعددية القانونية، وهو ما نجده في كثير من الدول الديمقراطية وغيرها، إن كانت ذات أكثرية مسلمة أم لا.
يلاحظ أنّك -من خلال هذا الكتاب – أعدت الجدل حول مسألة تقريب الإسلام من الحداثة الغربية، ولكن من مدخل معرفي يطرح الجدل القديم في سياق البحث الأكاديمي بعيدًا عن الايدلوجيا الدينية التي ظلت التهمة الوحيدة التي نعت بها أغلب المشاريع الفكرية في المجال التداولي الإسلامي إلى أيّ حد هذا التوصيف صحيح؟
– بالنسبة لي لا يوجد أي دين (أو ثقافة)، مهما كانت غابر بالتاريخ، يعتبر بشكل جوهراني متناسق مع الحداثة أو غير متناسق معها. كلّ الديانات والثقافات تتكيف مع مجتمعاتها وتتحوّل إما لمشروع فكري متناسق مع قيم كونية كالقيم الليبرالية والمتمثلة في الحرية والمساوة والتعددية والديمقراطية أو لا. لماذا أؤكد على القيم الليبرالية؟ لأنّها أصبحت بعموميتها سائدة فكريا ومشغولة بتفاصيل من قبل فلاسفة عدة مثل جون رولز أو ناصيف نصار أو عزمي بشارة أو تشارلز تايلور. وهذا الفرق بينها وبين من يدعي أنّ ما جاء في التراث العربي-الإسلامي كاف لفهم ما هي الحرية أو المساوة. لم يعد موضوعة العدل أو المساواة في عموميتها كافية للاكتفاء في التنظير التراثي، بين الغزالي والمعتزلة والأشاعرة مثلا. لطالما كَمَنَ الشيطان في التفاصيل وعندما تتطبق اليوم في قرننا الحادي عشر وفي ظلّ عولمة تجعل من الصعب استقلال ثقافة كلية مقارنة مع أخرى.
أنا لا أريد تقارب مجتمعاتنا مع الغرب ولكن من حداثة كونية طوَّرها تطور الوعي الإنساني عبر العصور والتي استمدت جذورها من العصر المحوري (axial age) أي من القرون السابعة قبل الميلاد ولعدَّة قرون لتشكل بعض المبادئ الأخلاقية الكبرى ومن ثم تتمأسس في تجربة الحضارة الإسلامية ومن بعدها عصر التنوير مع كانط وهوبس وهيوم وروسو وفولتير وهيجل وغيرهم. إذن الحداثة إنسانية وليست غربية . فقط، هناك مشاريع فكرية إسلامية قد فهمت ذلك وتفاعلت مع قيم الحداثة (مثل: مالك بن نبي، راشد الغنوشي، سعد الدين العثماني)…وغيرهم كثير.
هل يمكن أن توضح هذه الرؤية بمثال لمشروع فكري في المجال التداولي العربي الإسلامي، يمتلك خصوصيّة الانتماء للدائرة الحضارية، كما يمتلك الكفاية المعرفية المستوعبة للمنجز الحداثي بتنوعاته وتفاصله؟
-أحد المشاريع الفكرية الإسلامية اليوم الهامة ولكن بنفس الوقت إشكالية هي الفلسفة الائتمانية لطه عبد الرحمن؛ والتي تشكل اختراقا يتمثل بتطوير نسق معرفي يطمح بالكونية وبنفس الوقت يستقي مناهله من التراث العربي الإسلامي. كما نعرف فإنّ للفلسفة وظيفتين. الأولى توصيف وتحليل المشكلات المعاصرة في المجتمع والعالم، ووظيفة تقديم مقاربات وحلول معيارية لمشكلات معاصرة. بينما أبدعت الفلسفة الائتمانية في الوظيفة الثانية فقد قدمت توصيفا محدودا وبعض الأحيان خاطئا للمشكلات المعاصرة. وتكمن المشكلة بشكل أساس بفكرة التطابق الديني (religious congruence).
يفترض عبد الرحمن أنَّ الإنسان اليوم -الذي يعيش السياق العربي/الإسلامي – هو يتأثر بمنظومته الأخلاقية المستمدة من دينه. وبما أنَّ فهمه لهذه المنظومة خاطئ أو لأنّه تأثر بمنظومة مستمدة أفاقها من العلمانية الغربية قد وقع في المشكلات المعاصرة.، ولذا يكون الحلّ هو تقديم معرفة صحيحة حول الإسلام بعيدًا عن الفهم الرسمي أو السلفي أو الإسلام السياسي باتجاه إسلام فيه تزكية للنفس. ويكون ذلك أيضا بفهم الشريعة عبر المحاكمات الأخلاقية.
كل ذلك جميل ولكن هل فعلاً هذا كاف لحل مشكلاتنا المعاصرة؟ أعتقد أنَّ هناك ثلاثة إشكالات ابستمولوجية وتحليلية أساسية في فكر عبد الرحمن.
– عدم ملاحظة أنَّ الإنسان اليوم يستخدم قيما من منظومات فكرية وفلسفية وأخلاقية متعددة. ففي ظلّ العولمة يتأثر الإنسان ليس فقط في الفكر الغربي وإنّما أيضا في الفكر السلفي عبر القنوات السلفية الممولة خليجيًا ومتأثرة بالإعلام الاجتماعي الصوفي والشبكات العابرة للحدود الوطنية للطرق الصوفية. إذا العولمة خلقت في كلّ مجتمع محليّ التعددية: التعددية الثقافية وفي طرق العيش والتعددية الأخلاقية. لقد أظهرت في دراسة ستنشر قريبا كيف أنّ هناك درجات مختلفة من التطابق الديني حتى عند المتدينين. أي أنَّ هناك عوامل أخرى تؤثر على سلوك الإنسان تتجاوز فهمه لما هو سائد من خلال الشريعة الإسلامية. لذا لا خلاص لنا لفهم الإنسان العربي والمسلم اليوم من استخدام منهج “الفصل والوصل والفعل”
– وقوعه في ثنائيات مانوية حادة من شرق/غرب، علماني/ديني، الخ. وهذا ما وقع فيه مع كل أسف وائل حلاق في كتابه الدولة المستحيلة.
– هناك تضخيم لدور الدين والمعتقدات في الصراعات المعاصرة على حساب تحليل أكثر مادية. فمثلا في كتابة ثغور المرابطة، يعتبر الصراع العربي-الإسرائيلي بأنَّه صراع ديني بين اليهودية والإسلام (ويصمت عن الوجود المسيحي في فلسطين). وينتج عن ذلك تعميق التحليل الطائفي للصراع على حساب النظر إلى هذا الصراع على أنّه كلاسيكي كولونيالي.
أطروحتي هي تبني منهج “الفصل والوصل والفعل التعددي” بديلًا لأسلمة المعرفة. |
ألا ترى أنّك تريد التقريب بين حقلين معرفيين مختلفين في المنهج والأدوات والمفاهيم؟
-نعم لكل حقل معرفي منهجه وأدواته ومفاهيمه ونظرياته، وهذا شيء طبيعي ويغني نظرتنا للحياة. كيف يمكن لنا اليوم فهم حياتنا بتعقيداتها بدون استخدام مبدأ تداخل الاختصاصات؟ تعدد النظرات يخلق غالبا جدلا وهذا ليس فقط بين العلوم الاجتماعية (مثلا يركز علم الاجتماع على البنى الاجتماعية بينما يركز علم النفس على الذات) وإنّما بين العلوم الاجتماعية وعلوم الدين واللاهوت. وقد ظهر لي أنّ بعض العناقيد المفاهيمية مثل “نقد”و”تأويل” و”معرفة” و”صحوة فكرية” تتساوق في فضاء يعجّ بمفاهيم أخرى مثل “ثوابت”و”وحي” و”تأصيل” و”صحوة إسلامية”، إذ أنّ هناك سيولة ومرونة بين هاتين المجموعتين من المفاهيم ويجب أن لا ينظر إليها على أنَّها مضادة.
منذ دخلت العلوم الاجتماعية عامة وعلم الاجتماع خاصة إلى المجال الأكاديمي العربي، لم تعرف أي إضافات عربية لهذا الحقل، وظلّ هذا الحقل يتحرّك بين الترجمة والتأصيل ثمَّ الأسلمة والتقريب، وربما ينتهي إلى الهجران والعزوف… كيف ترى مستقبل هذا الحقل المعرفي الهام في العالم العربي والإسلامي؟.
-أنا أختلف معك هنا،. في السنوات الأخيرة، تشير الدراسات البيبليوميترية إلى نمو كبير في العلوم الاجتماعية في العالم العربي. إنَّها ليست ذات جودة أفضل فحسب، بل أصبحت العلوم الاجتماعية العربية أكثر تنوعًا في وظائفها وبرديغماتها. أشرح في هذا فصل كتبته حديثا في كتاب قد حررته مع أرماندو سلفاتوري وكيكو أُبوس The Oxford Handbook of the Sociology of the Middle East أبيّن فيه اتجاهات البحث المختلفة التي تتطور من اتجاه سائد نقدي كوني-محلي (glocal)، إلى اتجاهات أكثر استقطابًا، ذات المنظورات ما بعد الكولونيالية والإسلامية. وقد بينت أن هذه الاستقطابات قد ركّزت على أهميّة البراديغمات (paradigms) الأصيلة للعلوم الاجتماعية، وعلى تخليص العلوم الاجتماعية من بعض الأحكام المعيارية الغربيّة التي بنيت على الأخلاقيات الغربيّة الماديّة والاستعماريّة. ومع أنّ بعض المدارس الفكرية حاولت أن تدفع بالعلوم الاجتماعية في ذلك الاتجاه؛ إلّا أنَّ هذا لم يخل من مغالاة شملت خلق ثنائيّات مضرة (التراث/الحداثة، الشرق/الغرب، طبيعي داخلي/خارق للطبيعة، العالمي/المحلّي، العقلاني/غير العقلاني، اللغة الإنجليزية/العامية اللغة والعالمية/ السياقية وما إلى ذلك… إلخ). لا يستطيع المرء إلّا أنْ يعترف بآثار الحقبة الاستعمارية. فهي لا تزال موجودةً (وحتى الاستعمارية بحد ذاتها في حالة استعمار إسرائيل لفلسطين)؛ بحيث تمنع البعض أحياناً وتذكر الآخرين بالطرائق التي يجب عدم أخذها. ولكن، هناك في الآن نفسه استخدام وسوء استخدام للدراسات ما بعد الكولونيالية التي تُشدّد كثيراً على العوامل الخارجية، وتُهمل العوامل المحلية. لذا اقترح دعم المقاربة ما بعد الكولونيالية بمقاربة المناهضة للاستبدادية.
كيف نفهم الإنتاج المعرفي في بلد مثل سورية؟ هل فعلاً مشكلتنا كانت في أنّ أدواتنا التي نفكر بها هي أدوات فيبر ودوركهايم وبارسونز؟ أم ّ في القمع الفكري وعدم إمكانية النشر إلاّ بما ترضى عنه الدولة، وتغييب كامل لسؤال الاقتصاد السياسي وقضية الاستبداد؟ السوال الأزلي “من يكتب التاريخ؟” الذي شغل النقاد ما بعد الكولونياليون طويلا يجب ألا يوجه فقط للمستعمر المنتصر ومستشرقيه، ولكن أيضا لأنظمة الحزب الواحد. لقد ﺃﺻﺒﺤت الموافقة ﺍﻷﻣﻨﻴﺔ ﺷرطاً ﻣن ﺷرﻭﻁ ﺍﻟﺘﻌيين ﺃﻭ ﺍﻟﺘرﻗﻲ ﺃﻭ ﺍﻟﺴﻔر ﻷﻋﻀاء الهيئة التدريسية في ﻣﻬﻤﺔ ﻋﻠﻤﻴـﺔ في الخارج. وهكذا يجب البحث عن جذور الدولة الداعشية ليس فقط في الفهم المتطرف للدين ولكن بثقافة نشرتها الدولة-الوطنية العربية الاستبدادية منذ أمد طويل وحتى يومنا هذا. يؤدي البحث النقدي إلى تهميش المسار المهني لمؤلفيه. والأسوأ من ذلك، فمنذ بداية الانتفاضات العربية، سمعنا يومياً قصصا عن انتهاك الحريات الأكاديمية. وفي هذا السياق، حاول كثيرون حماية أنفسهم من خلال الرقابة الذاتية، بحيث يلجأ الباحث الاجتماعي العمومي إلى استخدام تقنيات المتحدّث المضلل(Prolocutor)، بحسب تعريف قاموس أوكسفورد للكلمة: «استخدام لغة غامضة بهدف التضليل»، أي استخدام «الإقناع لنيل ولاءات عائمة تُستخدم بنجاح اعتماداً على القدرة البلاغية للتقديم والدعوة إلى أوضاع جديدة”. وهذا مدفوع غالباً بمزيج من الخوف من الدولة والسلطات الدينية. فقط من خلال توطيد الجماعة العلمية يمكن حماية الباحثين وأعضاء هيئة التدريس من هذه السلطات.
إذا المزاوجة بين المقاربة ما بعد الكولونيالية والمقاربة المناهضة للاستبداد، هي على شاكلة النقد المزدوج لعبد الكبير الخطيبي: “أولا، تفكيك المفاهيم التي ظهرت من المعرفة السوسيولوجية وخطاب أولئك الذين تحدثوا نيابة عن المنطقة العربية، التي تتسم في الغالب بالأيديولوجيا المركزية -الإثنية -الغربية، وثانيا، نقد المعرفة السوسيولوجية والخطاب حول المجتمعات العربية الذي ينتجه العرب أنفسهم” وهي على شاكلة انثربولوجيا عبد الله حمودي. إنَّها انثربولوجيا تتجاوز النقد التبسيطي ما بعد الكولونيالي الذي رفض الإنتاج المعرفي للآخر الأورو-أمريكي باسم الهوية. هو ضد الرفض ولكن أيضا ضد الاقتباس من النظريات بدون اخضاعه للميدان. إنّ المسؤول اليوم عن الفهم التبيسطي للمفهوم الخلدوني “العصبية” قد وقع فيه ليس فقط الأنثربولوجيون الأوربيون ولكن الباحثين العرب عندما لم يرافق فهمهم الصيرورة المنهجية عند ابن خلدون وكيف تتشكل العصبية وتنمو وتتقلص وقد تختفي، كما بين ذلك حديثا عبدالله حمودي في مقالة في مجلة عمران (2017) والإشكال ليس بإيجاد أبستمولوجيا للجنوب في مقابل إبستمولوجيا الشمال المهيمنة، كما يقترح بيفانتورا دي سوسو، ولكن بالنقد العميق للخطابات ذات الحمولات الكولونيالية والسلطوية المحلية واختيار المسافة في خضم الحميمية حسب الموضوع والمبحوث والسياق، ف”الداخل” و”الخارج” (Emic and Etic) هو جدلية تخص الجميع.
في ظلّ هذا الوباء كيف عشته شخصيا؟
– في هذا الوقت المظلم الحاصل نتيجة وباء كورونا أتذكر الساعات الطويلة التي كنت أقضيها أمام نقاط التفتيش الإسرائيلية. لقد عشت في فلسطين حيث كنت اتنقل من منزلي في القدس وعملي في رام الله ما بين عامي 2000-2004م أثناء سنوات الانتفاضة. ففي ذلك الوقت كنت أنتظر نهاية الانتظار بفارق الصبر، حيث يستمر الانتظار بين 10 دقائق إلى ساعة أو ساعتين أو ثلاث ساعات، وحتى يمكن أن لا يسمح لك بالدخول أو الخروج، كما تشعر بأن غيرك هو من يتحكم في وقتك. وقد أسميت ذلك ب (العنف المعلق) (suspended violence) وأقصد بذلك العنف أنك لا تتمكن من معرفة متى يبدأ أو ينتهي. فوباء كورونا المنتشر حاليًا يعني عدم وجود قاعدة، إذ لا يعرف أحد منا نهاية هذا الحظر، وكيف سيتطور هذا المرض؟ ففي البارحة سمعنا وأخبرنا بأن من تعافوا من المرض قد لا يسلموا من عودته مرة أخرى، فقد يعود إليهم. وفي حين كان اعتقادنا أن المتعافين قد تعافوا من المرض إلى الأبد. كنت قد كتبت عن الصراع العربي مع المشروع الكولونيالي الإسرائيلي معتبرا أنه لم يتم هناك إبادة جماعية (genocide) وإنّما إبادة أو تطهير مكاني ( spacio-cide) وشعرت أنّ هذا المشروع هو إبادة أو تطهير زمني (chrono-cide). وهكذا اليوم ما أشعر هنا: فنحن في اضطراب، وبمعدلات غير مسبوقة، كيف نتناول طعامنا؟ وكيف نذهب إلى العمل؟ وكيف يمكننا التسوق؟ كيف ندبر صحتنا، والاختلاط، وقضاء أوقاتنا، وسفرنا، الخ؟
منذ ظهر وباء كورونا قرأنا آراء لمجموعة من السوسيولوجين الكبار أمثال: آلان تورين، هابر ماس، إدغار موران، سلافوي جيجيك… وغيرهم. كيف قرأ ساري حنفي -المشتغل بنفس الحقل – تأثير هذا الوباء في العالم، وعلى الفرد العربي؟.
-حتى الآن من المؤكد أنّ عام 2022 لن يرقى إلى مستوى تمنياتنا التي بحنا بها ونحن ندخل في هذا العام الجديد. نحن نشهد حاليًا واحدة من أكثر الأوبئة المدمِّرة في التاريخ الحديث، مع 130 مليون حالة مؤكدة وأكثر من مليوني حالة وفاة على مستوى العالم. كشفت الأجواء السريالية لوباء كوفيد -19 خطوط الصدع في الثقة بين البشر والدول؛ بين المواطنين والحكومات، وهي تدفعنا إلى طرح أسئلة كبيرة حول أنفسنا وعلاقاتنا الاجتماعية والحياة بوجه عام. ولا تقتصر هذه الأزمة فقط على الصحة العامة والبيئة أو الاقتصاد. ما نشهده هو لحظة الحقيقة فيما يتعلق بأزمة الحداثة المتأخرة ونظامها الرأسمالي على نطاق واسع وشامل وعلاقة الأثنين مع الطبيعة. لن نتمكن من العودة ببساطة إلى “العمل كالمعتاد” بعد أن نمر بهذه الأزمة، وينبغي أن تعمل العلوم والأبحاث الاجتماعية وغيرها على تحليل هذه الحقائق الجديدة والانخراط بنشاط في معالجتها. يجب أن نقوم بإعداد لمرحلة ما بعد الوباء من جانب الأكاديميين، وكذلك جميع الجهات الفاعلة في المجتمع المدني وصانعي السياسات العامة، من أجل تحويل هذه المأساة إلى ميزة. لنتذكر، كان للكساد العظيم (Great Depression) في أوائل الثلاثينيات من القرن الماضي تأثير عميق في جميع أنحاء العالم، وكانت الاستجابات السياسية للأزمات مختلفة جذريًا. لنأخذ الولايات المتحدة والصفقة الجديدة (New Deal) التي اقترحها الرئيس فرانكلين روزفلت بين عامَي 1933 و1939. كانت الصفقة عبارة عن سلسلة من البرامج، ومشاريع الأشغال العامة، والإصلاحات المالية، وإصلاح قوانين العمل، وإصلاح العلاقات بين الإثنيات. على النقيض، كانت ألمانيا، في ردها، تستبدل الديمقراطية بالنظام النازي. دعونا نتذكر أنه في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية، أن المقاومة الفرنسية قد أنشأت في عام 1944برنامج عمل للمقاومة وسمّوه “الأيام السعيدة” (Les Jours heureux). من الضروري أن نقول إنه لم يكن هناك فقط بعض التدابير السياسية لاستعادة الديمقراطية، ولكن التدابير الاقتصادية الراديكالية تميزت بتأميم الإقطاع الاقتصادي والمالي المهيمن على نطاق واسع من إدارة الاقتصاد، وبالطبع بعض التدابير الاجتماعية، ولا سيما تحسين الأجور، وإعادة تأسيس نقابات العمال المستقلة، وخطة شاملة للضمان الاجتماعي. كانت السنوات الثلاثون التالية فعلًا السنين السمان ،أي أيامًا سعيدًة حقًا لفرنسا. وبالتالي، علينا أن نقرر في أي اتجاه سنذهب، وما هو نمط حياتنا لما بعد كورونا. التخطيط مهم للغاية، ولكن يجب تعبئة جميع الموجهين الأخلاقيين لبناء الاعتراف والحظوة المجتمعية لا على النجومية والنزعة الاستهلاكية التمييزية والتنافسية، بل على مدى تضحية الفرد من أجل الجماعة واجتهاده في خدمتها، وهذا هو معراج في مدارج الإنسان نحو الكمال.
إن إعادة انغراس الاقتصاد في الاجتماعي والسياسي والثقافي لن يكون من دون ربط العلوم الاجتماعية بالفلسفة الأخلاقية، بالطريقة التي اقترحها بول ريكور بمقولة شديدة التكثيف: “هدفنا هو عيش الحياة الطيبة مع الآخرين ومن أجلهم في مؤسسات عادلة”.
أي أنَّ ربط فكرة العيش الكريم والأخلاقي مع الآخر لا يمكن أن يكون فرديًّا ومن دون إشراك الجماعة والمجتمع، ومن دون العيش من أجل الآخر، من خلال تبني أخلاقيات الحب والتضامن والضيافة والعطف مع الآخر، وبخاصة عندما يكون الآخر مهمشًا. وبدأ الوطن العربي يؤسس لفلسفة أصيلة في هذا المضمار، ولعل أهمهم ناصيف نصار وعزمي بشارة وطه عبد الرحمن. فنصار ربط الحرية بالعدالة الاجتماعية واعتبر المسؤولية هي الوجه الآخر للحرية : فالمسؤولية تتجاوز مسؤولية الفرد أمام نفسه أو أمام القانون، إنها المسؤولية الاجتماعية التي تنبثق من الوجود الاجتماعي نفسه (مسؤولية أمام نفسه والآخرين). وذلك بتنظيره لليبرالية التكافلية القائمة على العدالة التضامنية، فهو من دعاة التضامن الاجتماعي الذي يفرض التوفيق بين المصلحة العامة والمصلحة الخاصة. وهو يؤسس الذات على «الوجود بالمعيّة» انطلاقاً من معنى العيش مع الآخر لفهم الذات المتكونة. وهو بالتالي ينتقد الديالكتيك الهيغلي الذي يقوم على السلب والنفي والتضاد الذي أثبتت التطورات بُطلانه وطغيانه مؤسسًا لمنطق الاختلاف الذي يقوم على الغيرية، والحق في التعدد، وهو الذي يحرر الفكر من كل نظرة معيارية لوغوقراطية. أما بشارة فيجادل أن الحرية اجتماعية ويؤكد ربطها بالديمقراطية أيضًا وتتطلب التحقّق في المؤسسات الاجتماعية ولكن دون أن تتنازل عن حرية الفرد (بشارة، 2016). أما عبد الرحمن فإن تأكيده موجه على العدالة الائتمانية الكونية إنها محاولات جيدة لبناء صورة الآخر، ليس فقط في ما يتعلق بمن يُنظر إليه على أنه خصم، ولكن في ما يتعلق بكيفية اهتمامنا ورعايتنا للآخر. هنا يمكن للمناقشة الأخلاقية الجادة أن تروّض السعي لتحقيق مصلحتنا الذاتية.
تتماشى هذه المقاربات العربية مع اتجاه فرانكوفوني، والذي أصبح فيما بعد عالميًّا، مناهضًا للنزعة النفعية، والذي تمأسس بالمدرسة «التآلفية» التي نشرنا بيانها بنسختيه الأولى والثانية “Manifesto on Convivialism” . أنا أنادي مثل زملائي في هذا الاتجاه بضرورة العودة إلى الوعي الأنثروبولوجي المشترك للإنسانية، ليس بصفته فردا إنسانيا اقتصادويا (Homo Economicus) (أي أناني)، وإنما الإنسان المآثرة والتعاون والتضامن، والذي اكتشفه مارسيل موس (1872- 1950) في دراساته عن الهبة أو اقتصاد التبادل (هِب، خُذ، رُد). وهذا الاتجاه الأخلاقي ينادي بضرورة التغيير على مستويين: المستوى الفردي بتذكير الإنسان برسالته في الحياة، ومستوى السياسات العامة من خلال إجراءات لتحقيق العدالة الاجتماعية وتوزيع الثروة. وعلى سبيل المثال: أن يكون هناك مدخول حد أدنى لكل العائلات (يحدد في كل بلد) ويحدد سقف أعلى لمدخول الفرد (من طريق سياسات ضرائبية تصاعدية صارمة)، ولو أدى ذلك إلى هروب بعض الاستثمارات وبطء النمو، وكذلك بضرائب أعلى على الأملاك. ولكن كما وبدور حكومي أكبر في الاقتصاد. أنا سعيد بمساهمات حديثة لثلاثة نساء من علماء الاقتصاد ليؤسسوا لإقتصاد أكثر إنسانية وعدالة. أولا ماريانا مازوكاتو واسهامات حول دور الحكومة في الاقتصاد كمستثمر متحمل للمخاطر ومبدع. والثانية كارلوتا بيرتز وتنظيرها لـ «إتفاق التخضير الجديد» الذي يعتبر أكثر الخطط جسارة لمواجهة أزمة الاحتباس الحراري . وأخيرا ستيفاني كيلتون (وكتابها الهام بعنوان «خرافة العجز» (The Deficit Myth) معتبرة أن تطوير الخدمات العامة هو استثمار إيجابي ولو أنه أدى للعجز.
في السنوات الأخيرة، تشير الدراسات البيبليوميترية إلى نمو كبير في العلوم الاجتماعية في العالم العربي. إنَّها ليست ذات جودة أفضل فحسب، بل أصبحت العلوم الاجتماعية العربية أكثر تنوعًا في وظائفها وبرديغماتها. |
من خلال ترأسك للجمعية الدولية لعلم الاجتماع، ماهي تجربتك وأجندتك لها؟
-اعتبر هذا المنصب تكليفاً وليس تشريفاً، وآمل أن أكون على قدر المسؤولية. أشعر بأنّني أمثل رمزياً فلسطين وسورية ولبنان وكلّ الوطن العربي وآمل أن يحالفني النّجاح في تمكين الجماعة العلمية العربية من تدويل (Internationalization) معرفتها ولكن أيضاً بتعميق روابطها في معين العلوم الاجتماعية في التراث العربي- الإسلامي. لقد ركّزتُ في حملتي الانتخابية على ضرورة كوننة الجمعية الدولية لتمثّل باحثي الشمال والجنوب على حدّ سواء، ورفض الطرح الاختزالي لبعض خطابات مفكري ما بعد الكولونيالية الذين ركزوا على هيمنة الشمال على الجنوب؛ متناسين أن ما يعيق إنتاج المعرفة هو الاستبداد المحلي الذي يطرد الباحث من مؤسسّات البحث أو يضعه في غياهب السجون أو يمارس القمع على إنتاجه.
وركّزتُ على تعميم تجربة البوابة الإلكترونية حول الأثر الاجتماعي للبحث العلمي (أثر) (https://atharportal.net)، التي أطلقتها من خلال معهد عصام فارس للسياسات العامة والشؤون الدولية في الجامعة الأميركية في بيروت والتي تستهدف البحث العلمي حول/ من الوطن العربي، على جميع الباحثين في علم الاجتماع في أنحاء العالم. وسأقوم بتنظيم نشاطات علمية متعددة في المنطقة العربية. سيقوم منير السعيداني، أستاذ علم الاجتماع في تونس، وهو في اللجنة التنفيذية للجمعية الدولية لعلم الاجتماع بعمل مدرسة صيفية لطلاب الدكتوراه في علم الاجتماع في تونس في سبتمبر 2022 وغيرها من البرامج التي تعزّز واقع العلوم الاجتماعية في البلدان العربية. توليت رئاسة الجمعية الدولية لخمس سنوات (2023-2018)، تنتهي بمؤتمر عام للجمعية الدولية لعلم الاجتماع يعقد في مدينة «مالبورن» في أستراليا. وقد اخترت عنواناً للمؤتمر العام: «عودة السلطوية: علم اجتماع التشابكات الجديدة للدين والسياسة والاقتصاد»، ليشكّل عنوان أجندة بحثية تتوّج المحاولات الجديدة في حقل علم الاجتماع لنقد نظرية العلمنة الصلبة وفشلها في تحليل صلابة الظاهرة الدينية في دول الجنوب كما في دول الشمال.
كتب في افتتاحية إضافات عن المرحوم علي الكنز، كيف تقيم مسيرة هذا الرجل الذي مات غريبا عن بلده، ومجهولا عند قطاع كبير من الجزائريين؟
-عرفتُ عليًّا عندما كنت طالبَ دكتوراه في باريس من خلال مشروعٍ بحثيٍ فرنسي عن الجماعة العلمية في العالم العربي، في مؤتمرٍ كنت ألقي كلمةً فيه. حينها دعاني إلى المدرسة الصيفية للجمعية العربية لعلم الاجتماع في تونس، مدرسة عظيمة لأنَّني تعرفت إلى طلبة الدراسات العليا القادمين من كلّ حدبٍ وصوب من العالم العربي. هناك كان يستمتع بعض الأساتذة «بالأستذة» علينا ويصولون ويجولون في نقدهم «المتعالي» بعض الأحيان لمقترحاتنا البحثية، إلاّ عليًّا، فقد اشتهر بشخصيته الهادئة وتواضعه الكبير وبقلّة كلامه. هو الذي يبحث عن الكلمات والمصطلحات باللغة العربية، أتذكر أنّه كان يطلب إليّ أن أجلس بجانبه لأساعده على ترجمة بعض المصطلحات من الفرنسية إلى العربية، وقد شعرت آنذاك أنّني أمام قامةٍ علميةٍ استثنائية.
حافظتُ عبر السنين على علاقتي معه ومع زوجته سوزان الفرا، كانت تجمعنا أحاديثُ اللجوء الفلسطيني، لنلتقي في القاهرة، تونس، الحمامات، بيروت، باريس، ليون، عنابة (كانت هناك مظاهرات عارمة لجبهة الإنقاذ مطالبةً بعدم إلغاء نتائج الانتخابات). عندما كنا نتحدث عن اللجوء الفلسطيني كنت أشعر بمرارة حديثه عن ألم اللجوء، وها هو قد وجد نفسه في 1990 لاجئًا في منافي تونس وفرنسا. لكن شاء القدر أن نكون معًا في نانت لعدة سنوات، حيث توطدت علاقةٌ إنسانيةٌ رائعة بين عائلتَينا… كنا نتزاور من الحينة للأخرى: أذكر كيف كان يلعب مع ابني أنسي ويذكّره بالعمليات الحسابية من الجمع والطرح والضرب.
كان علي ينتقد فيّ أي شعورٍ بالانبهار بالغرب، لم يكن يحب استشهادي ببعض الباحثين الفرنسيين الذين كان لهم وجودٌ سياسيٌّ مريبٌ في الدول العربية وبخاصة الجزائر. كان في تحليلاته السياسية المتشائمة يعي حجم القوى الرأسمالية والعقدة الأوروبية باتجاه تاريخهم مع اليهود. لم يتوانَ عن نقده لاتجاهاتٍ عنصرية في فرنسا، وقد صرّح لتلفزيون النهار في 2018 بأنَّ الإسلام هو أكثر دينٍ مندمج في فرنسا، ودانَ الإسلاموفوبيا لدى كثير من الصحفيين والباحثين الفرنسيين.
كان آخر اتّصالٍ هاتفيّ بيننا في صيف 2021، حين تحدثنا عن موضوعاتٍ كثيرة ومنها القضية الفلسطينية والانتفاضات العربية وبخاصة التجربة السورية، كنا نتأمل باللقاء… أندم الآن كثيرًا لأنَّني لم أستطع زيارته قبل وفاته.
كلمة عامة للقارئ الجزائري…
-أشدُّ على يد الأكاديمي الجزائري بالنضال من أجل حريته الأكاديمية وشحذ الحس النّقدي. بالنسبة لي كفلسطيني كنت وما أزال أشعر أنَّها وطني الثاني. في ربوع مدينة تبسة (مدينة مالك بن نبي) تدربت مع الفلسطينيين. ومن الجزائر العاصمة أعلن بيان نشوء الدولة الفلسطينية.