العنايـــة بالـمجتمــع حـق دينــي علــى العلمــــــاء

أد. مولود عويمر
تقديم المقال:
الشيخ العربي التبسي من مواليد 1891. حفظ القرآن الكريم وهو ابن 13 عاما. واصل تعليمه في زاوية الخنقة بالقرب من مدينة بسكرة ثم انتقل إلى الزاوية العزوزية بالنفطة بالجريد التونسي. وفي 1913 سافر إلى العاصمة تونس حيث نال شهادة الأهلية ثم شهادة التحصيل من جامع الزيتونة. سافر إلى مصر للدراسة في جامع الأزهر حيث تحصل على الشهادة العالمية. عاد إلى الجزائر واشتغل بالتعليم والعمل الدعوي. وساهم في تأسيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين وترقى في مدارج إدارتها إلى أن عين في منصب نائب رئيس الجمعية ومديرا لمعهد الإمام عبد الحميد بن باديس. ونظرا لمواقفه الصلبة ومساندته للثورة التحريرية تم اعتقاله في 4 أبريل 1957 من طرف الأمن الفرنسي ومات تحت التعذيب.
نشر المقال في مجلة “الشهاب” (ج 7، مج 8،جويلية 1932)، لصاحبها الشيخ عبد الحميد بن باديس . وقد تأسست في 12 نوفمبر 1925 بمدينة قسنطينة كجريدة إصلاحية أسبوعية. وفي عام 1929 تحولت إلى مجلة شهرية، موزعة على مجموعة من الأبواب التي التزمت بها في كل أعدادها. وكانت مجلة راقية بموضوعاتها الدينية والفكرية والأدبية والاجتماعية، يحررها نخبة من العلماء والمفكرين الجزائريين والأجانب. وقد صدرت بانتظام دون تخلف إلى غاية أوت 1939 فتوقفت عن الصدور بقرار الوالي العام الفرنسي بذريعة تعطيل كل النشاطات العلمية والأدبية بسبب الحرب العالمية الثانية.
كان المجتمع الجزائري يعاني أزمات متعددة بسبب الجهل المركب الذي ساد أفراده من جهة، والنخبة الدينية المغشوشة التي تعيّنها الهيئات الاسلامية الرسمية التي وكلت إليها إدارة الشؤون الاسلامية كالقائمين على مناصب الإفتاء وجمعيات الأحباس والزوايا. لا تتوفر دائما في الأفراد المعينين الكفاءة العلمية والأخلاق السامية فالولاء للمستعمر ووكلائه والوفاء لفلسفته الدينية في الجزائر هما الشرطان الغالبان في التعيين في تلك المناصب. وإذا طبعت على هذا المقال النظرة التشاؤمية في وصف الحال والنزعة النقدية في العرض، فإن الشيخ التبسي يفتح في نهاية المقال الباب للإصلاح وتغير الأحوال باستدعاء العلماء الحقيقيين لأداء رسالتهم بكل شجاعة وإخلاص. ويخصص مقالا في العدد القادم لبعض الحلول وسماه: “إعداد الوسائل للعناية بالمجتمع”.
«كلما نظرت إلى مجتمعنا الجزائري كمجتمع یدین بدین له تعالیم تسيطر على الدنيا وما فيها، وتقود إلى الآخرة وتدعو إلى سعادتها الأبدية. وكلما ألقيّ في نفسي أيضا أن أمتنا الجزائرية في تنشئتها التي شاخ على أساليبها كبيرها، ونبتت في مدارجها أحداثها، قد كونت فيها هذه التنشئة حالة نفسية عامة في الأمة، باتت کملكة لها، تصدر عنها أعمالها، ويتولد عنها تفكيرها، وصنعت في معامل بيئتها لغة تخاطبها، التي تترجم عن نفسيتها التي أنبتها هذه النشأة، وطبعتها بطابعها الخاص في مميزاتها وخواصها، كشعب شرقي له حدود طبيعية وتاريخية، يُعد اليوم من أشد الشعوب الشرقية في أساليب الحياة، ودعائم الحضارة ومقومات الأمم.
وكلما استحضرت في نفسي أيضا مبدأ من مبادئ الإسلام وشُعبة من شعبه لأعرضه على الأمة، وأسبر أثره في عمل الجمهور الذي يعرف بالإسلام، وأحز مبلغ تأثيره في افرادنا وجماعتنا، ومبلغ تحكم ذلك المبدإ في الأمة حتى يُعطى حالة مشتركة، ومظهرا عاما في جمهور الأمة يصح معه الحكم على الأمة بأنها خاضعة لذلك المبدإ، مقرة بسلطته عليها، هذا من جهة. ومن جهة أخرى أعرض أيضا الأمة على مبادىء الإسلام، وأبحث عن مبلغ تعلقها به وتفهمها له تفهما يجعله حقيقة علمية ومبدأ صالحا، أدركت النفوس حاجتها إليه، وافتقارها إلى ربط جامعتها أو فرديتها به، وعلى ذلك الإدراك ينشأ في نفسها لذلك المبدإ العظيم إكبار وإجلال وحرمة، ويعد في أفرادها وجماهيرها مبدأ خالدا تعّن له الوجوه، ويخضع له الرأي العام، ويحكم حينئذ العلم على الأمة.
وعلى ذلك المبدإ – يحكم على الأمة بأنها أمة ذلك المبدإ – ويحكم على المبدإ بأنه مبدأ لها – يضاف المبدأ إليها – وتنتسب هي له، ويذعن العلم حينئذ بأنها أمة تذعن لقانون إلهي سماوي صالح لكل زمان ومكان، ويقال يومئذ أنه مبدأ مكوّن للشعب، مصيّر له، شعبا تاريخيا له ماض لا بد أن يربط حاضره به.
كلما قامت في نفسي هذه الخواطر، وكلما جمعت روحي هذه الكليات حُشي ما بين جوانحي غيظا، وطارت نفسي ذاهبة إلى ربها شاكية إليه من هذا التناقض الموجود بين الجمهور والمبادئ الإسلامية والتعاليم الدينية، التي نشاهد البقية الباقية منها على أبواب توديع الوطن وأهبة السفر منه.
تلك المبادئ التي استحالت في لغة الجمهور کفرضيات لا حقائق لها، وخیالات لا محصول لها في أعمالها، ولا مظهر لها في تصرفات جمهور الأمة. وبانت صلة الجمهور بالتعاليم الإسلامية الحقيقية، صلة يستحق عليها هذا الجمهور في حكم العقل والدين والعلم، جزاء من اختار الغَيّ على الرشد، وآثر الضلال على الهدی.
ولا بد للعلم أن يحكم على هذه الجماهير بأنها جماهير حائدة عن دينها، بعيدة عن مصادر الرشد وموارده، جافية طباعها، مستهينة بكرامتها، معينة للدهر على اضمحلالها وفنائها في سجل الأمم، نابذة لأصلح المبادئ التي تكوِّن الأمم، وتُعدّ الشعوب لسعادة الحياتين الدنيوية والأخروية.
ولا بد للعلم أيضا أن يقول لهذه الجماهير: إنك لجماهير جهلت ما علمت، ونسيت أن الإسلام دين دعائمه التي يقوم عليها بنيانه العلم، وأنت أمة لم تستضيئ بالعلم، ولم تسيري في حياتك على ضيائه. ولو سرت مستنيرة بشعاعه لبصّرك من حياتك، وإعراضك عن دينك الإسلامي حسن ما تركت وفاتك، وشؤم ما قبضت عليه بيديك واخترته لنفسك من فوضى اجتماعية دينية، يتخبط أبناؤك في شرورها يوم جهلوا ما في دينهم من ترغيب في المكارم، وتحبيب للفضائل، وزجر وتحذير وترهيب عن موبقات ومهلكات ومبيدات. ویم اخترقوا الحدود والفواصل التي وضعها الإسلام فاصلا سمیكا، لا تهدها الأيام ولا تعمل فيها حوادث الليل والنهار، بين أبنائه وبين المفاسد الاجتماعية والفردية، اعتقادية أو أخلاقية.
ومنذ دخلت عليّ هذه الآراء، ظلت نفسي ذاهبة جائية، بين جماهيرنا وبين تعاليم الإسلام، التي حافظنا منها على الأسماء، وأخذت همومي تعاودني ليلي ونهاري، حلي وترحالي، في شغلي وفراغي، لم يغب عن بصيرة التأمل في مآل أمة كانت في عهودها الماضية في طليعة الأمم، ذوات النظم السامية الكفيلة بإقامة العمران على أسسه الثابتة. تلك النظم التي تحوّل أنأى الشعوب عن المدينة واستثمارها، والعقل واستدرار مواهبه، وإلى شعب ذي بصيرة ومواهب عقلية، أخّاذا بأساليب الحياة، مسارعا إلى شغل مركزه بين أرقى الشعوب.. استحالت إلى أمة فعل بها الزمان أفاعيله، ولعبت بها الجهالات، وتحوّلت إلى أمة سلبية عديمة الإرادة.
أمة سلبا كاد يخرج جمهورها من حظيرة الإنسانية المفكرة المنتفعة بنتائج ناطقيها، وصارت جماهيرنا لا تحي حياة تركز على التأمل والتعقل والانتفاع بما يقع بين أيدينا ومن ورائنا وعلى أبصارنا من متجددات الحوادث، وماضيات العظات الماسة لحياتنا الدينية والدنيوية، سواء منها ما يتناول حياة الأفراد أو حياة الجماعة.
وانصرفت جماهيرنا من حياة الأمم المرتكزة على التعاون، القائمة على أساس مصلحة الجماعة مقدمة على مصلحة الفرد، إلى حياة أشبه ما يُضرب لها مثلا حياة أهل الحشر في موقفهم الأكبر وهولهم الأعظم، يوم يكون كل أحد شعاره: نفسي، نفسي، فذلك مثلنا اليوم.
أخال أن من امتلأت نفسه بمثل ما امتلأت به نفسي، ودب إليه مثل ما دبّ إليّ من هذه الآراء، وقام في نفسه ظل هذا الشعور الذي ملك عليّ تفكيري، وأخذ ينمو بمرور الأيام وتغذية الحوادث له، حتى أصبح ملكة من الملكات التي تصدر عنها آثارها من غير شعور، أخال أن عيشه بين هذه الجماهير، يكون في نظره عيشا منغصا بغيضا مملولا، يحاول الخروج عنه بتعديل عوج هذا الجمهور، وقد حاولت بحكم هذا الشعور بعض المحاولة في ظروف كثيرة ومناسبات عديدة أن أقوم من عوج من اتصل به وتربطني به الروابط الدينية الوثيقة الخصوصية، فأكون قد قضيت بعض حقوق الإسلام وأمته علي، وكنت في محاولتي هذه وأثناء أداء ما ركبني من حق دیني عليّ ناهجا مناهج دينية، آخذا بأساليب سداها ولحمتها الائتساء بأساليب القرآن، والاتجاه إلى مقاصده، والأخذ بمعالم السُّنة، وترسم خطى أعلام الإسلام وأئمته، الذين استماتوا في سبيل تبليغه. وقد أفلحت في محاولتي إلى حد ما. ونجحت في مأموريتي في أغلب المواضع التي طال احتكاكي بها، ولا أستطيع أن أزعم أن هذا المقدار الذي نلته من الفوز يخرجني من مسؤولية تبليغ الدين و آدابه، ولا أكتم القراء أن فوزي الجزئي المتحدث عنه، لم أنله بغیر صراع ونزال وهجوم ودفاع، ذلك أن في أوساطنا دعاة سوء، وأن هناك عراقيل وصوّاد أوجدتها الأيام، يرجع عهد وجودها إلى عصور موغلة في القدم. وأن الأيام أوجدت لنا في مجتمعاتنا مبادئ هدامة في الأمة يقوم بتمثيلها فئات اعتادوا العبث بعقول الأمة الساذجة. ومكنوا للأوهام والسفه العقلي بينها، تمکینا ملأ على الأمة مداركها، وألبس هذه المبادئ في نظر الجمهور ثوبا خداعا، ونحلها اسما غير اسمها الحقيقي، وأعطاها اسم المبادی الصالحة التي يجب أن تكون عيارا عند العامة على كل من خالفها من جديد أو حدیث.
وعادت هذه المبادئ الهدامة كالقضايا المسلمة والتعاليم المعصومة، وليس للعلم عند هذا النفر الذي استخف بالناس أن يتقدم لمبادئهم ليعطي رأيه فيها، ويؤدي مهمته كقاض بفصل في أعماله، ولا للمنطق الصحيح أن يضع أشکاله وقضاياه وأقيسته ليثبت ما يجب أن يثبت، ويزيف ما يجب تزييفه، وإنما العلم والمنطق والعقل معطلة لا حكم لها، معزولة عن وظائفها، ليس لها أن تؤدي مهمتها، وتفصِّل الهدى والضلال، وتعطي ما لله لله وما لقيصر لقيصر.
وأي شيء أحق على نفس العالم المفكر من اضطراره إلى الاحتكاك بمن لا يفهم له لغة، ولا يذعن إلا لقضايا تقليدية، أمشاجها التي تركبت منها أعضاؤها الغباء والجهل، وأي شيء أشد حسرة على نفس العالم أيضا يوم تحشر له مجموعة أوهام وأواهم في صميم العلم وصريح الهدى؟ ومتى حاول أن يقنع من يحشرها في العلم، أو يجبره على الأقل إلى اعتبار ما يسميه علما وهدى أمرا يصح أن ينظر فيه، ويختبر أمره، ويعرض على المقاییس العلمية، عدّ ذلك منك استخفافا بالدين واحتقارا لمن سبقه من أهل العلم، وهذا النوع من البشر والطرز من أهل الحجاج الجاهلي، لا تعدمه بكثرة أو قلة في مدن الوطن وقراه، وهذه الفئة عند نفسها وعند العامة فئة عالمة لها حق التكلم باسم الدين والعلم، ولها حق الزعامة فيه وإرشاد الجماهير، ولا عليها أكانت هذه التسمية ترتضيها معاجم اللغة ويقرها العلم، أم أن العلم ولسان العرب يأبيان ذلك، وما تزال الجماهير عندنا مشايعة لهذه الفئة متابعة لها، بحكم أن الجمهور أسير للسمعة الصحيحة والباطلة، وللجمهور العذر الذي لا ينكر في متابعة هذه الفئة والانخداع بها، ما دام هذا الجمهور لم يتعرف بالعلماء الحقيقيين، ولم يستمع لدروسهم، ولم يطلع على ما عندهم. وما دامت هذه الفئة جد حريصة على بقاء ما كان على ما كان من بقاء الأمة بعيدة عن غيرهم، قريبة منهم، تجلس في مجالسهم، وتشرب من كؤوسهم، لأن في حرصها هذا بقاء لكيانها وحفظا لمركزها.
إن مصلحة الإسلام اليوم وحق الشعب على الطائفة العالمة وواجب الإنسانية تقضي على الطائفة المتعلمة أن تتقدم إلى الأمام لتؤدي وظيفتها، لأنها هي الطائفة التي تعد في وضعيتها ذات الحق في نشر الهداية الإسلامية، وهذه الفئة العالمة وإن كانت أقلية جدا مفرقة في نقط معينة في مدن القطر هي أكثرية معنا، لأنها في وضعيتها الإسلامية قانونية، على عكس الفئة الأخرى، فإنها وان كانت أكثرية جدا فإنها أقلية معنا، لأنها ليست بهيئة مستمدة لسلطتها من التشريع الإسلامي، الذي يجعل وجود أمثالهم على رأس الأمة دينيا من أمارات الساعة. وإن العالم يعلم أن الإسلام يقول بلسان حاله ومقاله: إن كل عمل يأتيه الجهل والجهلاء أنا بريء منه ومن نتائجه وشروره. ويقول: إن المقالة لا تنسب إلى الإسلام حتى يكون هو القائل لها، المقرر لما ترمي إليه من مصلحة، والعالم إنما هو مترجم حاك عنه، مبلغ تبلیغ من يفهم لغة الدين، ويدرك مقاصده.
لعمري أن هذه الفئة غير الشرعية قد أوجدت في وطننا المنكود شرورا طويلة عريضة، كادت تخرج الشعور الإسلامي من صدور الناس، ووجد بدله شعورا آخر، وانتهت الحالة بسبب تسلطهم على عقول العامة إلى أن باتت معالم الإسلام غير قادرة في نفسها، ولا ثابتة حقائقها حسنا وقبحا، وإنما تحولت الحالة إلى أن أصبح الحسن والقبح الشرعیان تابعين لاستحسان واستقباح هؤلاء الرؤساء.
على المتأمل أن يتأمل جيدا، ويتفهم نفسية الجمهور اليوم، فإنه سيجد أن الأمة في أمور دينها ليست على مهيع واحد في الشعور الديني، الذي يجب أن يكون شعور الفرد والجماعة فيه واحدا، وما أكثر المفاسد التي أوجدتها هذه الفئة في الأمة، مفاسد عمت وما خصّت، لم تنج منها العقائد، ولم تسلم منها عموميات الإسلام، التي جعلها حقا مشاعا بين معتنقيه.
جاءت هذه الفئة واعتدت عليها من غير مبرر شرعي، رغم استنكار العلم والعلماء لهذا الافتيات علی مظاهر الإسلام ومقدساته، ولست في كتابتي أكتب عن شيء مجهول، أو حادثة فردية، علمها البعض وجهلها الأكثر. وإنما أتحدث إلى القراء عن مظالم رکبها هؤلاء الناس في أقدس الأماكن في الوطن، بيوت الله، فإن هذه الفئة أرادت أن تحتكر المساجد لنفسها، وتوصد أبوابها في وجوه العلماء أصحاب الحق في هذه المساجد، وفي تصديهم لتعليم الأمة فيها، إذ وضعية المسجد في الإسلام وضعية معبد تؤدي فيها الشعائر الإسلامية، ووضعية كلية علمية حرة تؤدي فيها المعارف على اختلافها: دينية أو لغوية أو عمرانية، وإن هذه الفئة التي عطلت المساجد عن عمارتها العلمية جاهلة بأن عصرنا هذا ليس بالعصر الذي يقبل اضطهاد العلم، ويرضى بالنقيصة فيه.
إن الأمة الجزائرية التي تستظل بالراية الفرنسية التي صارت في المشرق والمغرب مضرب مثل في الحرية العلمية: دينية أو علمانية، لا تصبر بحال من الأحوال على اعتداء هذه الفئة على بيوت الله وتعطيلها عن عمارتها بالدروس العلمية، مهما كانت منزلة هؤلاء المعطلين للمساجد، وإن هذا الاعتداء الذي تأتيه هذه الفئة التي تنحل نفسها سيما المهتدين، وتتظاهر أمام العامة الجاهلة بأنها ذات الصبغة الإسلامية والسيرة السنية وطد صورتها تلك حالة الفوضى التي صار فيها الشعب، فصار يحسب كلامهم هو الدين، ووطد صورتهم فوضى العام والأخلاق والاجتماعات الدينية والدنيوية.
ولو كنا شعبا يحب النظام لأخذنا بشيء من النظم الحديثة التي تجعل كل شبيه في محيطه ودائرته، فإن سير الحياة اليوم أخذ مهيعا جديرا بأن يأتي بفوائد، وأدخل من وسائل الإصلاح في الشعوب ما جعل كل هيئة لها تنظيم في محيطها وأعمالها، حتى بات كل فرد من أفراد الأمة في دائرة وجوده لا يخرج عنه ولا يدخل على غيره.
أما نحن البؤساء فلازلنا نعيش عيش القرون الوسطى، كل شيء موکول إلى الصدف، مدفوع به إلى الفوضى، حتى رفعت الحواجز بين الحقائق، واشتبك الشيء بضده واجتمع مع عدوه، وتلاحم بمباينة ولم يبق من فاصل يفصل بين السنة والبدعة، ولا حاجز يحجز بين الهدى والضلال، وصح لكل من يحسن أن يؤلف جملا عربية أن يكتب في الجرائد في أشد المواضيع غموضا وأخفاها على أكبر الاختصاصيين في العلوم، ويقال عنه أنه كتب وخالفه مثله، والمسألة خلافية، وكثر بذلك الجهل، وازدادت حالتنا فوضى على فوضى، وزهد أهل العلم الحقيقيين في الكتابة في المواضيع الدينية التي يحسنونها، وحطموا أقلامهم، ورأوا أن دخولهم في ميادين الكتابة لا يجلي الحق ولا يأتي بثمراته، فخيرا لهم أن يسكتوا حتى يمنّ الله بساعة يعرف كل أحد قدره.
وقد نابت الأمة حوادث استحقت الكتابة، واستحقت أن يعني بها كبار العلماء، لأنها مسائل لها خطرها من ناحية الدين والاجتماع كحادثة القراءة على الجنائز وما إليها، التي ظلت مرتعا خصبا لفريق من الجهال، ونفقت بسببها سوق الهذر، وكحادثة منع المالكية من الأذان بغرداية التي اتخذها فريق موردا من موارد الرزق، وبوقا ينفخ فيه أتباعه لنيل الثناء عند العامة، وليقال عنه أنه الغيور على الدين، كما اتخذها فريق آخر فرصة ومظهرا من مظاهر العصبية الطائفية، وبقي الحق الذي يجب أن يقال في صدور أهله، وانقضت أيام الجزائر في هذه السفاسف، وضاعت الأمة في هذه الفوضى، وإلى ربها مشتكاها.
وقد كان لعلمائنا أن يكتبوا إلينا شيئا من آرائهم الموفقة حول حياتنا الاجتماعية، ويعالجوا نفسية الأمة المريضة بما فتح الله به عليهم من العلوم الدينية، ويحاربوا هذه السنن السيئة التي جعلت الجزائر مباءة لكل رأي زائف، ومنزلا لسخافات البشر. فإن عصرنا هذا عصر تیسرت فيه على العلماء وسائل تبليغ الدين وتفهيم أصوله وفروعه، وهُيِء لهم من وسائل النشر في الصحف والمجلات ما لم يتهيأ لمن تقدمهم من العلماء الذين نشروا المذاهب وأذاعوا الآراء، ولم يبق للعلماء من شيء يصدهم عن نشر العلم وفضائل الاسلام إلا العمل بعلمهم والامتثال لوصايا دينهم الذي يقول: “لئن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك مما طلعت عليه الشمس».