الحـــق الـمر

الأدب الدفاعي

يكتبه د. محمّد قماري/

 

أسارع إلى القول أننا لا نقصد بلفظة (الأدب) كما أثبتناها في العنوان ذلك المعنى الدارج اليوم، بمعنى ذلك الإبداع الذي يأتي على ألسنة وأقلام الأدباء، لا نقصد به الشعر والقصة أو الرواية أو الترسل؛ الأدب الذي قصدناها هو ذلك الجانب غير المادي، فأصحاب الشركات يعرضون في مناسبات مخصصة تقارير مالية وأدبيّة في اجتماعاتهم، وهم لا يقصدون شعرا ولا قصة ولا نثرًا أدبيًا، إنما قصدوا تلك الترتيبات غير الماديّة في إدارة شؤون مؤسستهم…
وإثر نشرنا لمقال (الشيوعي المسلم) في العدد الماضي من أسبوعيّة (البصائر)، كتب صديقنا الدكتور محمد خلايفية، أستاذ علم النفس، معقبًا: (…الاصل حضرة الدكتور : أن لا مشاحة في المفاهيم و المصطلحات …وقد أوردتم قاعدة من علم اصول الفقه: «القياس مع الفارق»…فمسألة تركيب المصطلحات تركيبا لا متناغما قضية فيها نظر !!!
كنت اشرح بطريقة طولية مفهوم منهج التلفيق عند الفلاسفة والمفكرين وعلماء التربية…الغربيين منهم بصفة خاصة…ومنه مفهوم: «المسلم الشيوعي» و«المسلم الديموقراطي» و«الاسلام المعاصر» و«الاسلام المتحضر» …وأدركت انها مفاهيم يستغرقها منهج التلفيق …).
وغاب عن الأستاذ أنني لم أكتب عن (المسلم الشيوعي) بل كتبت عن (الشيوعي المسلم)، كما أني لم أكتب عن (الشيوعية في الإسلام)، فتلك معركة (الأدب الدفاعي) التي شغلت العالم الإسلامي وثلة من المتنورين فيه منذ نهاية القرن التاسع عشر وامتدت إلى نهاية النصف الأول من القرن العشرين…
كانت معركة قادها أصحاب أقلام لا نشك في إخلاصهم، ويجب أن نقرأ ما كتبوه بملابسات ذلك الزمان، حيث يجثم الاستعمار الغربي على أغلب أقطار العالم الإسلامي، ويعرض مفاتنه الفكرية والصناعيّة والحربيّة على جمهور الشعوب المستعمرة…هناك حيث التخلف والفقر والجهل الذي رسخه المستعمر، وبقايا من تدين (قدري) ينفخ في الناس روح الاستسلام والتسليم…
وفي تلك الأجواء العصيبة، ظهرت (فئة) من المتعلمين في المدارس الغربيّة، لا تعرف إلا تلك المفاتن المبثوثة في الكتب، ويعضدها واقع القوة، القوة في كل شيء في النظافة والنظام، في الحركة والنشاط، في الابتكار والتطوير، في حسن الادارة والتنظيم…وتنادى أولئك المتعلمون إلى روافد ذلك التقدم، تنادوا إلى ما حملته أفكار القوم (الغالبين)، فإذا بالمغلوب تابع للغالب يريد محاكاته في كل شيء…
لا تعجب حينئذٍ من حال تلك (الثلة) التي ما زال يربطها بثقافتها وتراثها حبل من العاطفة، لقد سعت تلك الثلة على قلة حيلتها وهوانها على الناس في سبيل تنبيه تلك (الفئة) من المتنورين بأننا نجد في تراثنا ما خطف ألبابكم، وأن الإسلام (عصري)، وأنه (اشتراكي) وأنه (رأسمالي) وأنه…
وتسلل ذلك (الأدب الدفاعي) إلى كتب التفسير نفسها، فالإمام محمد عبده يرى في حجارة (الطير الأبابيل) أنها ميكروبات أصابت جيش أبرهة وصدته عن هدم الكعبة المشرفة، لقد خشيَّ ألا تستوعب عقول المتنورين (الحجارة)، واجتهد الشيخ طنطاوي جوهري في مد حبال القول في تفسيره، وليأتي بالأدلة على سبق القرآن لما جاءت به صناعات العصر!
وإنك لتجد انبهارًا بدعوات العدالة الاجتماعية، ومحاربة الاقطاع وتكافؤ الفرص بين أفراد المجتمع، انبهارٌ سرى بين شباب يرى استئثار الشعوب الغالبة بثروات الأمة، وما تفيض به على بعض الموالين للاستعمار، والذي يحمل لواء (العدالة) وضرورة مقاومة (الاقطاع) في ذلك الوقت هو التيار اليساري وامتداداته في الأحزاب الشيوعيّة…
وفي خضم تلك الملابسات ظهر كتاب (معركة الإسلام والرأسمالية) للشيخ محمد الغزالي، وكتاب (العدالة الاجتماعيّة في الإسلام) لسيد قطب وكتاب (الاشتراكية في الإسلام) لمصطفى السباعي…كلها كتب تريد أن تنفي روح استئثار جماعة بالثروة والسلطة، وتؤكد أن الإسلام لا يقر تلك القسمة الضيزى، بل جاءت نصوصه تدحضها وتسفهها…
فإذا رجعنا إلى (الشيوعي المسلم)، فمقصدنا كان التنبيه إلى حالات بعينها، ورجالٌ معرفون بسيماهم، ولهم في الواقع نظائر وأشباه، كانوا يناضلون من أجل القضية الوطنيّة ضمن أحزاب شيوعيّة، لكنهم لم يكونوا يحملون منها إلا مؤدى (الرفض) للقهر والظلم، إذ كانوا في ما عدا ذلك في مواقعهم الروحية، يشيّدون المساجد وينشرون ثقافتهم الأصلية…
ولعل أحد أسباب انجذابهم إلى تلك التيارات اليسارية هو شيوع (إسلام القدرية)، ذلك التدين الوديع الذي لا ينكر الظلم، ولا ينتصر للمظلومين، ذلك التدين الذي يرى في الظلم قدرًا يجب ممالته والعيش معه، وتبرير أفعاله وربما التصفيق له، لا العمل على تقويمه ومحاولة كف أذاه…
ولأجل ذلك، قلنا أن ذلك الاتجاه من اليساريين لم يكن معاديا لـ(الإنيّة) الحضارية، لم يكن خصما لثقافة الأمة وموروثها، بل كانت يساريته دليل على رفضٍ للظلم.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com