أكذوبة التغيير في خطاب «التنوير»
أ.د. عبد الملك بومنجل/
يقوم خطاب التنوير في الدائرة العربية على طائفة من الشعارات يُغري بها من لا يمحِّص ولا يدقق ولا يتجاوز السطوح إلى الأعماق. ومن هذه الشعارات «التغيير» و «التحوّل» و«التجاوز المستمر»؛ وهي تحمل معنى واحدا، وتتأسس على أطروحة فكرانية واحدة، مضمونها أن الحياة في تغيّر مستمر، وأنْ لا شيء في الوجود يستقر على حاله، وأنّ على الإنسان أن يستجيب لهذه القاعدة إن شاء لنفسه الحياة، بأن يتمرد على كل ما له صلة بالثبات؛ إذ لا ثابت في هذا الوجود إلا التغيّر ذاته!
وحين يطّلع القارئ العربي على مثل هذا الكلام يأخذه سِحرُ الحركة البهلوانية التي يتصورها الخيال في غفلة من العقل: حركة الإنسان الحيّ، الثوريّ، المتمرّد، المتطلّع، المشرئبّ دائما إلى ما هو أجدّ وأعلى وأقوى وأكثر استجابة لنزوع الإنسان إلى الأفضل. يتخيّل ذلك، فتعجبه الفكرة، ويتأثر بما يُبنى عليها من مقولات وأطروحات ونظريات وأحكام تشمل أنظمة الحياة وحقول النشاط الإنساني برمتها، لاسيما ما تعلق منها بالدين والقيم والآداب والفنون وأوضاع الحياة الاجتماعية والاقتصادية، وشيئا فشيئا يجد هذا القارئ نفسَه على طريق التيه الفكري والحضاري، ممزَّقا بين ثوابتَ يرسمها له دينُه، وتُقيِّدُه بها فطرته البشرية، ودعواتِ تجاوز وتغيّر تُغريه بها دوائرُ فكرية تقف وراءها دوائرُ فكريةٌ أخرى من مصلحتها أن يتخلى العالم العربي والإسلامي عن ثوابته وقيمه وخصوصياته، ليندمج في عالم يُخيَّل إليه أنه يتغيّر باستمرار ليعانق الحياة؛ ولكنه في الحقيقة يعيش ثوابتَه وقيمَه وخصوصياته، ولا يمارس من التغيّر إلا ما يمارَس على الماء النقي الزلال حين تتغيّر رائحتُه ولونه !
على القارئ العربي المسلم أن يكون حاضرَ الذهن، يقظَ الحس النقدي، وهو يتلقى هذه الدعوات، ويقرأ هذه الشعارات. وعليه أن ينظر في حال الحياة، وأوضاع الأنفس والمجتمعات بنفسه، ليعرف بنفسه أن مقولة «التغيّر المستمر» أكذوبةٌ مستمرة، وأن مساحة الثابت في حياة البشرية أوسع من مساحة المتغيّر، وأن خطاب التنوير العربي يريد له أن يتخلى عن ثوابته لا ليعيش التغييرَ والتجديد والتطور، بل ليعيشَ ثوابتَ غيره، أو ليتغيّر عن فطرتِه وإنسانيته كما يتغيّر بعضُ الماء عن رائحته وطعمه ولونه.
لقد دندنوا حول مقولة التغيير والتغير حتى خُيّلَ إلى من لا قدرة له على التفكر والتمحيص أن التغيير صفة إيجابية مطلقة، وأن الثبات صفة سلبية مطلقة. وكثيرا ما يَقرِن خطاب التنوير والتغيير الثبات بمصطلحات أخرى أشدّ تجريحا له وتشويها لصورته وتزهيدا فيه وتشنيعا عليه، من قبيل: الجمود والخمود والسكونية والتكلس. وحينها يجد القارئ العربي ضعيف القلب والعقل والهمة والمروءة نفسَه في حال من الحرج والشك في ذاته وقيمه وثوابته، يُترجمه إلى محاولة تكيّف مع الآخر، واستجابة لشروطه وقيمه ومعاييره، فيتحوّل عن ثوابته هو إلى ثوابت الآخر، وهو يحسب أنه انتقل من الثابت الجامد الساكن المتكلس، إلى المتغيّر المتطور المتجاوز المتجدد !
ويكفي أن يتأمل القارئ واقعَ حاملي هذه الشعارات أنفسهم، فيرى أنهم لا يلبثون يرددونها لا يبغون عنها حِوَلا. وأنهم لم يتخلفوا قطُّ عن ترديد ما يردده غيرهم مما يتعلق بثوابتَ تخُصُّهم في موقفهم من الله والغيب والدين والروح والأخلاق والقيم؛ فلم يتجاوزا العلمانية دينا، ولا الدنيانية مذهبا، ولا الدهرانية (فصل الحياة عن القيم الدينية) منهجا في التعامل مع الوجود؛ وأن الواحد منهم ما زال يردد إلى الآن ما كان يردده منذ نصف قرن على الأقل؛ يكفيه هذا ليكتشف أنه لا تغيير ولا وهم يجدّدون، ولا تنوير ولا هم يهتدون؛ بل الإقامة في ثوابت الآخرين، والثبات على تقليد ما لديهم مما ثبتوا عليه أو ما غيّروه !
أما إن شاء القارئ العربي المسلم أن يتجاوز مرحلة تمحيص الشعارات إلى بناء المفاهيم، فليتأمل قول الله تعالى:{ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء} إلى قوله:{ يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاءُ}، ليستنبط ما يدل عليه من المعاني الجميلة والقيم الأصيلة، وليعلم أن الثبات ليس نقيصةً في معيار الإسلام ولكنه فضيلة.