«الابتـــلاء سنـــة كـونيــة للفــرد والجماعــة»

عبد العزيز كحيل/
هذا موضوع لاكته كثير من الألسن، وتناولته أقلام كفأة وأخرى دخيلة، وقد دعتني أكاديمية جيل الترجيح للمحاضرة فيه فاخترتُ مغادرة الدروب المعبدة لأتناوله وفق الفقه السنني وليس بناء على التجارب الجزئية التي مرّ بها أفراد أو جماعات، من غير أن أغفل تجارب الواقع ودروسه.
وأول ما ينبغي التركيز عليه في تقديري هو عدم تهويل قضية الابتلاء كأنها خاصة بالمؤمنين وبالدعاة تحديدا، لأن الحق أنها سنة ربانية ماضية وقانون اجتماعي يعتري سير البشر جميعا مؤمنِهم وكافرِهم، ذلك أن الابتلاء يعني الإصابة بأنواع من الأذى النفسي والمادي والبدني أثناء مسيرة الحياة الدنيا، وهو أوْكد بالنسبة لأصحاب الرسالات والدعوات الإصلاحية والتغييرية، سواء كانوا أفرادا أو جماعات منظمة مهما كانت خلفيتهم الإيديولوجية والدينية، فلا يمكن لمنصف إنكار ما ابتلي به – على سبيل المثال – تشي غيفارا ونلسن مانديلا والأحزاب المناهضة للإمبريالية في أمريكا اللاتينية، والثمن الذي دفعه هؤلاء من حريتهم وعرقهم وأرواحهم في سبيل دعوتهم ونضالهم، فكيف إذا تعلق الأمر بالرسالات الربانية والدعوة الإسلامية؟ والفرق بين هؤلاء وأولئك يكمن في قول الله تعالى:
{ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ} [سورة النساء: 104]، أولئك سعيهم دنيوي بحت، وابتلاؤهم ينتهي بالتمكين أو الموت، أما المسلمون فسواء فازوا في الدنيا أم أخفقوا فإنهم يرجون الفوز الأخروي الذي يعوّض بسخاء عمّا لحقهم من أنواع الأذى وهم يؤدون الرسالة ويدعون إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة ويجادلون بالتي هي أحسن.
وللابتلاء – على مرارته – فائدة عاجلة مرجوة في مسيرة العمل الإسلامي هي ضرورته لعملية التمحيص التي تؤدي إلى غربلة الصفوف ليفتضح أمر المتساقطين وتبرز القدوات الصالحة للقيادة ومواصلة السير، وذلك عبر التطهير النفسي والتزكية الروحية ليزداد المؤمنون إيمانا بدعوتهم وتمسكا بأهدافهم مهما كانت التضحيات، ليكونوا أهلا لأن يتنزل عليهم النصر الإلهي، وهذا واقع جسده الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام.
وينبغي التنبيه إلى أن تنزل المحن ليس بحد ذاته دليلا على صحة الطريق وسلامة الخطة ولا حتى توفر الإخلاص، لأن المسلمين ليسوا مطالبين بتعريض أنفسهم للمحن، بل يختارون من الأساليب والأدوات ما يضمن لهم السلامة فإذا نزل الابتلاء صبروا وتحملوا ولم يتراجعوا، وبالتالي يمكن – بل يجب – تخفيف حدة المحن ما استطاع الدعاة إلى ذلك سبيلا، على ألا يكون ذلك على حساب جوهر الدعوة وأهدافها السامية، إنما هو في الطرق والأساليب، وهناك فرق شاسع بين من اختار الطرق الديمقراطية المتوفرة – رغم هشاشتها في الأنظمة العربية – وبين من لجأ إلى الحدة والعنف كاختيار استراتيجي… أجل، التمسك بالدعوة لا يتناقض مع السياسة والكياسة وحسن التصرف لتفادي المحن كلما أمكن ذلك، ولا يصلح هنا الاستشهاد بما تعرض له الرعيل الأول بقيادة الرسول صلى الله عليه وسلم من أنواع الأذى، فالسنة محل القدوة هنا ليست التعرض للابتلاء بل تحمّله إذا نزل والصبر عليه والعمل على تجاوزه، وما تخلى صاحب الرسالة عن الحكمة واللين والرفق والكلمة الطيبة أبدا، فإذا جاء الأذى رغم ذلك كان آية في حسن التعامل معه، لا يصده عن دعوته ولا يفتّ في تعضده ولا يجعل الوهن يسري في الصف الإسلامي، والدعوات تقوم على العزائم لكنها لا تلغي الرخص، ورأس الأمر هنا هو الحكمة، {وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً}[سورة البقرة: 269].
ولعل أهم نقطة على الإطلاق في هذا الموضوع هي التفريق بين الابتلاء والعقوبة، فالمحنة ليست دائما ابتلاء بل قد تكون عقوبة، والمعيار هنا هو الصواب والخطأ، ونبدأ معالجة الأمر من النظر في طروحات أصبحت مسلّمات لدى كثير من الجماعات الإسلامية العاملة يمكن إيجازها في:
– المحن سنة لازمة لا انفكاك عنها.
– وقوعها طبيعي ولا يدلّ على ارتكاب خطأ يستوجبها.
– نزول المحن دليل على صحة الطريق المتبعة.
– المحن لا يمكن تفاديها ولا التخفيف من حدتها ولا تقليص مدتها.
هذه «المسلمات» ماذا يسندها من الكتاب والسنة وفقه الدعوة ومقاصد الشريعة؟ ينتهي النظر المتدبر إلى أنها فقط ثمرة التجارب المؤلمة الآنية ولا تصلح للتأصيل الشرعي الكلي العام… ولا يخفى على العارف بالأصول والمقاصد والنصوص والسنن الاجتماعية ما في هذه «المسلمات» من مبالغة سافرة في التهويل من إلزامية المحنة، ويكفي طرح سؤال جوهري هو هل يرتكب الدعاة أخطاء أم لا؟
الرد بالإيجاب لا شك فيه، لذلك يُطرح سؤال ثان هو: كيف يمكن التعرف على أخطاء الدعاة سواء كانوا أفرادا أو جماعات أو هيئات إذا لم يخضع نشاطهم للتقويم؟ وواضح أن الجزم بأن المحن ليست نتيجة أخطاء يعفي الدعاة ابتداء من قضية المراجعة والنقد الذاتي وتقبل النقد الخارجي، ويرسخ في أذهان العاملين أن ما أصابهم من أذى أمر طبيعي من جهة ودليل على صواب سعيهم من جهة أخرى، وهذا في الحقيقة مكمن الخطر لأنه يورث نوعا من التزكية الذاتية ويحول دون تقويم العمل الدعوي ويكون سببا للانغلاق والتقوقع ورفض النصيحة والنقد وعدم الاعتبار بالنوازل والتغافل عن الأخطاء والاستمرار في الأسلوب المتبع ولو جرّ سلسلة من المحن تتوالى حلقاتها بغير نهاية، والحاصل أن نظرية المحنة السائدة أقرب إلى رد الفعل البشري منه إلى البناء التصوري المنهجي المؤصل، وقد صرنا ندرك خطورة هذه النظرية عندما أنتجت مازوشية حقيقية لدى قطاع كبير من الإسلاميين تمثلت في المنهج الدموي المتلذذ بالآلام والدماء والأشلاء والسجون.
إن حل هذه المعضلة يكمن في معادلة الإخلاص والصواب لأن المطلوب من العاملين ليس هو الإخلاص وحده بل تحري الصواب وإدراكه، فما كان خطأ في المنهج والوسيلة والتوقيت ونحو ذلك فهو يجلب العقوية، كمن تناول بيده العارية أسلاكا كهربائية غير مغطاة، وإنما يكون الأمر ابتلاء عندما تنزل المحنة رغم توافر الإخلاص والصواب… وإذا لم نفهم الفرق بينهما حدث تشويش كبير في مسيرة الدعوة والإصلاح والتغيير، فالمطلوب هو تلازم الإخلاص والصواب، ويتبيّن هذا من خلال المراجعة والنقد الذاتي المستمر وعدم تبرير الأخطاء، بل أضيف عنصرا آخر هو وجوب تحري الإحسان أي الإتقان في أداء العمل الدعوي لأننا نسمع كثيرا في أوساط الدعاة ورجال الإصلاح مقولة: نحن مطالبون بالعمل والنتيجة على الله ولكن المطلوب ليس مجرد العمل بل العمل بشروطه الثلاثة: الإخلاص، الصواب، الإتقان، والذي يريد الوصول إلى الشرق ويسلك الطريق المؤدي إلى الغرب لن يصل مهما كان مخلصا، ولا تكفيه أي وسيلة نقل بل لابد من المركب المجهز السليم الكفيل بإيصاله.
والمطلوب إذا – مرة أخرى – بذل أقصى ما يمكن من جهد مخلص صواب متقن مع التوكل على الله من بداية السير إلى نهايته، وتحمّل النوازل المقدّرة، وتبقى النتيجة بعدئذ على الله الذي لا يضيع أجر من أحسن عملا.