أنريد أن نجعل من الجزائر جُزرا…؟/ أ: محمد العلمي السائحي
إنَّ من أهم الركائز التي تنبني عليها الدول، وجود شعب وإقليم وسيادة، فتلك هي من أهم الركائز التي تفسح المجال لنشأة الدول وتشكلها، ولكنها تستدعي مع ذلك شروطا أخرى لابد من توفرها حتى يصبح بمقدور تلك الدول الناشئة أن تستقر وتدوم وتستمر، ومن بين تلك الشروط الضرورية وحدة الشعب ووحدة التراب، أما وحدة الشعب فتتطلب تاريخا مشتركا، وتشابك المصالح، ووحدة المصير، وامتلاك لغة واحدة، تضمن له القدرة على الاتصال والتواصل فيما بين أفراده، وتسهم في تشكيل التصورات، وانسجام الأحاسيس والمشاعر، وتنمية العواطف اتجاه الأرض ومن عليها، ووحدة التراب لا تقل ضرورةوأهمية عن وحدة الشعب، حتى يمكن بسط السيادة عليهن ويسهل إدارته، ويضمن القدرة على التدخل لمواجهة حالات التمرد وقمعها قبل تفاقمها، وتحولها إلى نزعات انفصالية تسهم في تفكيك الدولة وتقويضها، ولنا مثال حي فيما حدث في باكستان التي لم تكن تتمتع بالوحدة الترابية عند تشكلها ونشأتها، وإنما كان جزء منها في الشرق وجزء في الغرب، فانقسمت بعد حين إلى دولتين اثنتين باكستان وبنغلاديش.
غير أن أهم ركيزة من بين الركائز التي تتأسس عليها الدول، الركيزة اللغوية بلا مراء ولا جدال، حيث أن تعدد اللغات في المجتمع الواحد، يحول بينه وبين وحدة المشاعر، وتقارب العواطف، وتلاقي الأفكار، ويمكن لأسباب التنافر والتباعد، بل قد يهيئ الظروف لقيام صراع مرير بين عناصر الشعب الواحد، حيث يطمح كل طرف إلى فرض لغته على الآخر، والتمكين لها لكي تكون هي اللغة المعتمدة في تسيير شؤون الحياة في المجتمع، ولنا مثال حي فيما يجري اليوم في تركيا وسوريا والعراق، حيث يتواجد الأكراد الذين تذرعوا بالمطلب اللغوي واتخذوا من الذريعة اللغوية سببا لإعلان نزعتهم الانفصالية وأعلنوها حربا على أنظمة تلك الدول لا زالت مستمرة إلى اليوم، ولنا في الهند مثال آخر حيث أن تعدد لغات الهنود ألجأتهم إلى اختيار لغة دخيلة لا علاقة لهم بها، هي اللغة الإنجليزية، حسما لخلافهم اللغوي، وارتضوها لغة إدارية لهم، واختلاف الألسن واللهجات في الشعب الواحد هو من بين الأسافين التي اعتمد عليها المستعمرون في بسط سياداتهم على الشعوب واستغلالها، وبذلوا جهودا كبيرة في توظيفها لضمان استمرار هيمنتهم على الشعوب بعد أن ثارت عليهم واستقلت عنهم.
ولا يقتصر دور اللغة على كونها تسهم في عملية الاتصال والتواصل بين عناصر الشعب الواحد، ولا على توحيد المشاعر وتشكيل العواطف الذي لا ينكر دوره في ضمان الوحدة الوطنية، وإنما للغة دور آخر أهم فهي تشكل بالنسبة للمجتمع رافعة حضارية هامة تسهم في تيسير أسباب تطور المجتمع ونهوضه حضاريا، فعن طريق وحدة اللغة يغدو من الممكن تبادل الأفكار وتلاقحها، واستفادة بعضها من بعض وذلك من شأنه أن يعمل على تنمية البحث العلمي والتمكين له من الانتشار، فيرتد ذلك على المجتمع بأفضل النتائج في جميع مناحي حياته، ولنا خير مثال فيما حدث في العصور الإسلامية الزاهرة ، حيث بعد أن عمت اللغة العربية الشعوب التي انضوت تحت لواء الإسلام واعتمدتها لغة لها، وباتت هي لغتها المعبرة عن أفكارها ومشاعرها أسهم ذلك في ازدهار الحضارة وانتعش البحث العلمي وجادت قرائحها بأنواع العلوم وأرقى الآداب، وأسمى الثقافات.
ولنا مثال آخر فيما حدث في فرنسا فبعد أن كانت في العصور الوسطى ترزح تحت ظلمات الجهل والتخلف، وكانت لغة البلاط غير لغة الشعب لم يخرجها من ورطتها تلك إلا الجهود التي بذلت لتوحيد اللغة ولما صارت لغة البلاط ولغة الشعب لغة واحدة مشتركة تحرر الفكرمن إسارهوانطلق في عالم الإبداع فازدهرت العلوم والفلسفة والأدب ثم انطلقت الثورة الصناعية ودخلت فرنسا ومن ورائها العالم الغربي الأوروبي إلى عصر الحضارة الحديثة.
فلم نسعى نحن في الجزائر اليوم إلى تقويض وحدتنا الوطنية، ونعمل جاهدين على تعطيل سير عجلة تطورنا ونهوضنا، ونحرم أنفسنا من أسباب الرقي والتقدم؟
لماذا نحاصر اللغة العربية ونأبى أن نمكن لها، ونفرض عليها حصار لغويا ثلاثيا؟
وإلا كيف نفسر الدعوة إلى اعتماد الدارجة لغة للتعليم، التي ظهرت الدعوة لها في وقت ما فلما ووجهت تلك الدعوة باحتجاج الشعب، عادت هذه الفكرة التي طردت من الباب لتتسلل إلينا عبرة نافذة قناة جزائرية لتقدم لنا نشرة إخبارية بالدارجة تحت شعار” أهدر جزائري” هذا الشعار الذي يستدر العاطفة الوطنية ليضرب الوحدة الوطنية في الصميم، حيث ينفي صبغة الوطنية والانتماء للجزائر لمن يتحدث بالعربية؟
إن هذه دعوة حق أريد بها باطل، وإننا وأيمُ الله إذا بقينا على هذا النهج من التفكير والعمل، سنحول الجزائر إلى جزر، ويلفظنا التاريخ كما يلفظ آكل التمر النواة…
إنه لمما ينافي العقل أن نمكن للهجة ونسعى جاهدين لتطوريها إلى لغة، ونتخلى عن لغة تحتل الصدارة من بين لغات العالم أجمع، وإنه لمن أحمق الحمق أن نمكن للدارجة التي هي خليط من اللغات لنحلها محل العربية التي هي أشرف اللغات، التي أنزل بها القرآن وبها يرفع الآذان…