جامعة قسنطينة (1969 ــ 1975)بمناسبة مرور نصف قرن على تأسيسها التجليــــات الأيديولــوجيـــة للطلبــــة بالجامعــــة (8)

أ. د. محمد عيلان */
التطوع لمساعدة الفلاحين:
عرف الإصلاح الزراعي في الجزائر بعد الاستقلال إصلاحين:
الأول تحت عنوان التسيير الذاتي للأراضي والمزارع، التي كانت بحوزة الكولون، وقد تأسس هذا الإصلاح في عهد الرئيس أحمد بن بلة رحمه الله سنة 1962م، واستمر إلى 1970م، ومن أهدافه: جمع الفلاحين في إطار تعاونيات مسيَّرة ذاتيا، واستقلالهم في فلاحة الأرض، والحرية في تسويق منتجاتها. ونظرا لما آلت إليه الفلاحة في إطار التسيير الذاتي في مجال الزراعة، وعدم قدرة الفلاحين على التسيير؛ سواء على مستوى فلاحة الأرض أو على مستوى التسويق للمنتوج، فإن الدولة أعادت النظر في بنية هذا الإصلاح.
الإصلاح الثاني في عهد الرئيس الهواري بومدين رحمه الله، حيث أعاد هيكلة الأرض الفلاحية وتوزيعها وفق مبدأ (الأرض لمن يخدمها)، وفي إطار ثورة زراعية شاملة برؤية جديدة تضمنها ميثاق الثورة الزراعية عام 1971م، ومن أهم أهدافها: إعادة التوزيع السكاني على الأرض الجزائرية، وتجنُّب الهجرة والتجمع في أكواخ حول المدن، وكان مجلس الثورة بقيادة الرئيس الهواري بومدين يرى أن الزحف الريفي يمكن توقيفه من خلال بناء القرى الاشتراكية التي تتوفر على شروط المعيشة الضرورية للفلاحين، مثلها مثل المدن؛ كالعمل، والتعليم، والصحة، والسكن، والكهرباء، والماء، والمسجد.. ومختلف المرافق الضرورية.
ولكي يعتنق الفلاحون هذا الإصلاح ويؤمنوا به ويلعبوا الدور المنوط بهم لنجاحه، تَبَنَّى الطلبة في الجامعة المشروع الثوري للإصلاح الزراعي باعتبارهم من القوى الحية لنجاح الثورة الاشتراكية، كما كان الرئيس الهواري بومدين يقول في لقاءاته بالطلبة، وليس من سبيل لذلك إلا التطوع والعيش في أوساط الفلاحين في إطار النظام الاشتراكي خلال عطلهم الجامعية.
لكن هذا الاتجاه نحو التطوع، لم يكن للطلبة الجامعيين بعد الاستقلال السبق فيه؛ فقد سبقهم منذ الثلاثينيات الطلبة الباديسيون وشيوخهم (في نوع من التطوع) من خلال انتشارهم في القرى والمداشر والمدن والجبال لنشر الوعي بالهُوية الجزائرية، والحفاظ على خصوصية الجزائر وانتمائها الأمازيغي العربي الإسلامي مستلهمين مقولة الشيخ عبد الحميد ابن باديس: (أنا أمازيغي عرَّبَني الإسلام) و(شعب الجزائر مسلم وإلى العروبة ينتسب).
ومما يحمد للحركة الباديسية (وأنا أحد الطلبة الناشئين بمدارسها)؛ أنها كانت بعيدة عن التبني للمكون السياسي، وهو ما ميَّز الحركة الإصلاحية في الجزائر كونها أعادت اللحمة بين الجزائريين، وهيأت الأرضية لثورة 1954 المباركة، التي لم تكن ثورة مفكرين أو عمال أو فلاحين أو سياسيين أو إقطاعيين.. بل كانت (ثورة أمة)، ولم تتبن الحركة الباديسية الأفكار الإسلاموية كمثيلاتها في الشرق العربي، خاصة بعد (ثورة كمال أتاترك) في تركيا عام 1924م، الأمر الذي سهل لها أن تكون عنصرا هاما في ثورة التحرير، لتطابقِ أفكارها التحررية مع أفكار الحركة الوطنية في الجزائر في مقاومة الاستعمار، فتكفلت بالتربية والتعليم، وعلى سبيل الذكر فإن من طلبتها: الرئيس الجزائري هواري بومدين، ورابح بيطاط، محمد الصالح يحياوي وغيرهم.
أما نظرة الشيخ عبد الحميد بن باديس وعلماء مدرسته إلى زعماء الحركة الإصلاحية في البلاد الإسلامية أمثال: الشيخ جمال الدين الأفغاني، والشيخ محمد عبده، والشيخ رضا، والشيخ عبد الكريم الخطابي والشيخ المهدي؛ فقد نظروا إليهم كونهم مصلحين اجتماعيين، ولم ينظروا إليهم من خلال الأسباب التي أوْجَدتهم في المجتمعات العربية و الإسلامية، كما لم ينظروا إلى دعوات النهضويين العرب نظرة عدائية، وبذلك تميزت الحركة الإصلاحية الباديسية عن غيرها وكان لها الانتشار في عموم الوطن الجزائري، فلعبت الدورَ الرائد الذي يحسب لها في مجال التربية والتعليم من خلال مدارسها المنتشرة في عموم الجزائر قبل وخلال ثورة التحرير. كما أنه ليس لها شبيه في كل الحركات النهضوية في العالم العربي لتبنيها الحفاظ على هُوِية (الأمة الجزائرية) ومحاربة الجهل في الأوساط الشعبية. (شعب الجزائر مسلم وإلى العروبة ينتسب) أي ينتسب ثقافيا.
ولم يكن التطوع الجامعي مقصورا على طلبة الجامعات الجزائرية فقط، فقد كان الطلبة الجزائريون بالخارج يسهمون في هذا الحدث الذي صادف هوى فكريا وعمليا لديهم، فانتظموا لجانا وأفواجا تتكفل بمساعدة الفلاحين في (قرى الثورة الزراعية)، أو في القرى والمداشر الأخرى، وبدأوا يتجندون في عطلهم الجامعية للذهاب أفواجا في رحلات التطوع، وساعد على ذلك موافقة حزب جبهة التحرير الوطني، مما جعل البلديات تستقبلهم وتنقلهم عبر شاحناتها وسياراتها وجراراتها إلى القرى النائية، وكان الطلبة المتطوعون يقومون بأعمال ثلاثة:
الأول عضلي: يتمثل في مساعدة الفلاحين في عملهم الفلاحي اليومي.
الثاني صحي: حيث إن بعض طلاب وطالبات كليات الطب كانوا ضمن أفواج الطلبة المتطوعين؛ يسهمون في التوعية الصحية، وكشف الأمراض التي يمكن علاجها في القطاعات الصحية أو في المستشفيات.
والثالث: لقاء الفلاحين في جلسات توعية عن الثورة الزراعية، وعن دور الفئة الكادحة في انتصاراتها وعدم ترك البرجوازية المالية والاقطاعية تتسرب إليها لتسلب منها أراضيها وحقوقها.
وأذكر مرة أنه نشب خلاف في حوار بين طالب وطالبة في جلسة مع الفلاحين في جهات بسكرة، في موضوع حقوق الفلاح في الأرض والإنتاج، ومفهوم: (الأرض لمن يزرعها و يستثمرها)، فكانت الطالبة مقنعة في دفاعها عن وجهة نظرها عن الأرض والاستفادة من خيراتها.. فأعجب بها الفلاحون وقال أحدهم مستفزا زميلها: (عيشة خير من عياش والنعجة خير من لكباش) (خير/أفضل)، فانتشت الطالبة ورأت أنها فرصة لشرح رغبة تراودها، فشرحت أهمية تعليم البنات، وفتح المجال لهن لدخول المدارس، وسَيَكُنَّ خيرا على أسرهن و وطنهن.. وبَدَا أنَّ زميلها قد أحس بالهزيمة، فأراد أن يخفف عن نفسه فاستدار إلى زملائه وقال منتقدا: (مَهْبُولَه وقالوا لها زَغَرْتِي). ومما يلاحظ أن الطلبة الذين يدرسون باللغة العربية قلت مشاركتهم في هذا التطوع.
وهناك تيار آخر انتمى إليه بعض الطلبة؛ اعتمد مرجعية (القيم)، وبقي بالجامعة والمدن، ويرى أن ظاهرة التطوع المشترك خارج الجامعة أمر غير مقبول، وانتهج طريقا آخر لم يكن متوافقا مع غيره من التيارات الأخرى.
لكن ما يلاحظ على بعض التنظيمات الطلابية الميل إلى العمل النقابي، الذي يؤدي إلى التضامن والدفاع عن حقوق الطلبة وحتى الأفكار في ثوب الحقوق دون تمييز.
أذكر من الإضرابات التي بدأت تتجلى معالمها ابتداء من السنة 1969؛ الإضراب عن الدخول إلى المطعم الجامعي، أو تنظيم وقفات احتجاجية، أو الدخول إلى المطعم الجامعي وإبعاد العمال عنه وقت توزيع الوجبات الغذائية، ويقوم بعض الطلبة بخدمة زملائهم دون دفع ثمن الوجبة.
مصطلحات جدالية في الأوساط الطلابية خلال فترة الستينيات وأوائل السبعينيات:
في ذلك الجدال و ذلك الصراع برزت مجموعة من المصطلحات كانت صفات يَنْعت بها الطلبة بعضهم بعضا، لتوضيح رأي أو موقف، أو تعبيرا عن موقف أشخاص آخرين كــ: الرجعي، التقدمي، الإخواني، الباديسي، الحنتيت، الرفيق، الأخ، الباكسيست (نسبة للحزب غير المعترف به آنذاك حزب الطليعة الاشتراكية)، التروتسكي، البعثي (نسبة إلى حزب البعث العربي ومنه لَعْرُوبِي نسبة إلى القوميين العرب)، حزب فرنسا، الجبهوي (نسبة إلى جبهة التحرير الوطني الحزب الحاكم في مقابل اتجاهات فكرية لتيارات أخرى غير معلنة).. إلى جانب مصطلحات ومقولات نابعة من الحياة الشعبية كـ : ــ مْتَوْرَز من معانيه (مُتَجَنِّس متخلٍّ عن دينه) ــ رومي، بيوع بمعنى الواشي ينقل أخبار زملائه إلى الآخرين، ومثله (مرابط وبوليس)، قَاوري معناه بالتركية (كافر) (القاف تنطق جيما مصرية). وأسماء أخرى تطلق جزافا نتيجة الانفعال، أبو جهل، منافق، أعرابي، عربان، اهْمَجْ..
ومن الأمثال و الأقوال التي كانت تلخص مواقف وأحوال شائعة بين الطلبة: (فلان ما يجوع الذيب ما ايْغَضَّبْ الراعي)، و (فلان (H.T.M) أي (احْشِيشَة طالبة معيشة)؛ دلالة على اللامبالاة بما يجري، و (راقدة و تْمَانْجي/تأكل).. و(حوت مَطْلِي بالزيت). وأذكر مرة كنت في ساحة الكلية سمعت طالبة تعتز بانتمائها الباديسي أمام زملائها بعد حوار فقالت: (كي ايْغِيبْ لَقْمَر النجوم ضَوَّاية..) والمثل الشعبي واضح في الموقف المضروب له.
ويلاحظ أن هذه المسميات أو المصطلحات التي شاعت في الأوساط الطلابية داخل الحرم الجامعي لها خلفيتها الفكرية والتاريخية، وترمز إلى الوسطية أو إلى التطرف، وتلك طبيعة الشباب في حيويته.
لقد كانت الجامعة رغم هذا الجدل وهذا الصراع الذي قوامه المصلحة الوطنية يتسم طلبتها بالحيوية والنشاط والتنافس في الدراسة، والتحصيل في مختلف المراحل والمستويات. وكان حزب جبهة التحرير الوطني في تلك الفترة دائم الحوار مع الطلبة على اختلاف ميولهم وأفكارهم، فقد كان يعقد الجلسات العديدة معهم في الولايات وفي العاصمة لطرح انشغالاتهم، ويستمع لآرائهم في تسيير المؤسسات الاشتراكية مع قادة حزبيين في نقاش حر.. أذكر أنني حضرت لقاء عقده محافظ حزب جبهة التحرير الوطني بقسنطينة السيد (دقْسِي) وكان النقاش حادا حول موضوع المسؤولية الثورية للمناضل، فقام طالب وقال له: أنت تتكلم عن المسؤولية الثورية وتحث عليها وقريبك الطالب في الجامعة يرى خلاف ذلك، فقال له هو حر في أفكاره وطرحها، ولكن لن يُسمح له بأن يصطف ضد الإرادة الجماهيرية.
ومن محامد الرئيس الهواري بومدين رحمه الله أنه كثيرا ما يدخل في حوارت ونقاشات طويلة مع الطلبة حضرت بعضا منها؛ سواء على مستوى الفكر الثوري، أو على مستوى الدور الذي سيلعبه الطالب أثناء توليه المسؤولية التاريخية لبناء وطنه، ولم يكن ينزعج من النقاش الذي يجريه مع الطلبة أو الفلاحين حيثما حل في لقاء جماهيري، ورُوِي أنه كان يقول لقادة الحزب أمثال قايد أحمد ومحمد الشريف مساعدية ومحمد الصالح يحياوي وغيرهم: (حاوروا الطلبة واسمعوا آراءهم، فمهما كانت فهي خميرة للفكر الثوري، ومهمة للمناضل الحزبي).
وأذكر مرة أيضا أن أحد الطلبة في جلسة عامة بقاعة الاجتماعات المسماة (الجامعة الشعبية) خلف البريد المركزي بقسنطينة قال عن المسؤول الحزبي الذي أدار الحوار بأنه (تَغـيَّـر)، فسأله زميله ما الذي تغير فيه؟ فقال لقد اتسعت معارفه!، يبدو أنه يقرأ، فتجرأ وسأل المسؤول الحزبي أمام زملائه الطلبة عن تنوع أفكاره ومعارفه قائلا: إننا نراك غير ما كنا نعهدك من قبل!!، فقال له المسؤول الحزبي: المناضل يقرأ ويتكوَّن، ولا يكتفي بما تعلَّم، وذكر له اسماء كُتَّاب وقادة حزبيين استفادت منهم البشرية، فصفق الطلبة إعجابا بالمسؤول الحزبي؛ لأنه يقرأ تجارب الآخرين ليكون أهلا للقيادة.
هكذا كانت تلك الفترة، تتسم بالنقاش في قضايا بناء الدولة الاشتراكية مع قادة الحزب ومع المسؤولين في الدولة، مما كان يراه الرئيس الهواري بومدين رحمه الله الطريق الصحيح لبناء الدولة.
الحلقة القادمة: التأسيس لنظام تعليم مواز