تراثمن تراثنا

الإســــلام والتمدن العصـــري

أ.د. مولود عويمر/

يجد القارئ في هذه السلسلة نصوصا قديمة متجددة حررها العلماء والأدباء الجزائريون حول قضايا عصرهم واهتماماتهم العلمية والأدبية والفكرية والسياسية الوطنية والعالمية. وحوت هذه النصوص المرجعية للفكر الجزائري المعاصر معينا غزيرا سيغرف منه الباحثون المشتغلون على تاريخ الجزائر في القرن العشرين والدارسون لذخائر تراثنا. وألتزم هنا قدر الامكان بنشر الآثار المغمورة أو المتداولة بشكل محدود لننفض الغبار عنها ونحيي جهود أصحابها الذين لم ينصفهم دائما الباحثون لأسباب مختلفة. وأمهد في كل مرة بترجمة موجزة لصاحب النص، وبيان سياقه العام وعرض مختصر لمضمونه، وتعريف مقتضب للمصدر الذي اقتبست منه، وهي في غالب الأحيان عبارة عن جرائد ومجلات قديمة تعتبر في حد ذاتها وثائق مغمورة أو نادرة.

 

تقديم النص
صدر النص “الإسلام والتمدن العصري” في العدد الأول جريــــــــــــــــــــدة “السُــــــــــــــــــنّة” يوم 8 ذي الحجة 1351 هـ الموافق لـ 3 أفريل 1933م في الصفحتين 4 و5. وقد كتبه الشيخ الطيب العقبي واحد من أبرز أعلام الإصلاح في الجزائر، وأحد الأعضاء المؤسسين لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين. ولد ببلدة سيدي عقبة بولاية بسكرة في 1 شوال 1307 ه/ 20 ماي 1890م. هاجر إلى الحجاز مع عائلته وهو طفل صغير. درس في المسجد النبوي الشريف بالمدينة المنوّرة فحفظ القرآن الكريم وتعلم العلوم الإسلامية والآداب العربية.
اشتغل بالصحافة مما جلب له أنظار السلطة العثمانية التي عاقبته بالنفي إلى أزمير بتركيا حيث مكث فيها عامين. ولما انتهت الحرب العالمية الأولى عاد إلى مكة وعينه الشريف حسين مديرا لجريدة ” القبلة” و” المطبعة الأميرية”. وفي 1920 عاد إلى الجزائر وتفرغ للدعوة والإرشاد والإصلاح في سيدي عقبة ثم في مدينة الجزائر حيث أصبح خطيب نادي الترقي الذي يقصده الناس من كل القطر الجزائري للاستماع إلى محاضراته ودروسه.
وأسس أيضا جريدة “الإصلاح” واستقطب لها أبرز الأقلام العربية في الجزائر. ساهم في تأسيس جمعية العلماء وترأس تحرير جرائدها الأربع المتتالية: (السًّنة، الشريعة، الصراط، البصائر). ولما اختلف مع بعض قادتها، استقال من جمعية العلماء وتفرغ للنشاط الصحفي في جريدته “الاصلاح” والإشراف على أعمال الجمعية الخيرية ومدرسة الشبيبة الاسلامية. وبعد مرض أقعده الفراش سنتين توفي في مدينة الجزائر في 21 ماي 1960 عن عمر ناهز 70 سنة من العطاء العلمي والنشاط الإصلاحي.
و”السُنّة” هي أول جريدة أصدرتها جمعية العلماء المسلمين الجزائريين بعد تأسيسها وصدر منها 13 عددا. وأشرف على رئاسة تحريرها الشيخان الطيب العقبي ومحمد السعيد الزاهري. كانت تصدر يوم الاثنين من كل أسبوع في 8 صفحات، كتب فيها أبرز أعلام هذه الجمعية الإصلاحية وغيرهم في المشاغل الدينية والعلمية والأدبية. ولم تعمر الجريدة طويلا إذ أوقفتها سلطة الاحتلال الفرنسية في 3 جويلية 1933.
إن أصل هذا المقال كما أوضحت ذلك هيئة التحرير في تقديمها كان محاضرة قدمها الشيخ العقبي في نادي الترقي الواقع بساحة الشهداء حاليا بطلب من الإذاعة بمناسبة ليلة القدر الموافقة ل 27 رمضان 1951 ه/ 20 جانفي 1933 غير أن إدارة الراديو لم تلتزم بوعدها ولم تبث المحاضرة على أثيرها. ويبقى أن أشير هنا إلى أنني لم أنقل هنا تصدير النص لأنه ليس جزءً من المحاضرة وإنما مجرد تنبيه لقراء جريدة “السُّنة” في ذلك العصر.
ولقد عرض الشيخ العقبي نظرته للتمدن باعتباره جهدا إنسانيا دائما لتحقيق سعادته في الأرض لنفسه ولغيره، وبيان رسالة المسلم التي تتمثل في تحقيق الخلافة على أرض الواقع وفق المنهج الرباني القائم على المزاوجة بين العمل والكسب لتوفير متطلبات الحياة، والتمسك بالأخلاق والتعبد لأداء واجبات الآخرة.
يبدو أن هذه النظرة المتفتحة والمعتدلة لم تعجب القائمين على إدارة الإذاعة العربية في حكومة الاحتلال فلم يتم تسجيلها ولم تبث على أمواجها ليستفيد الجزائريون المنتشرون في كل أرجاء القطر الجزائري من أفكارها وتوجيهاتها الهادية.
الشيخ الطيب العقبي: “الإسلام والتمدن العصري”
«السلام عليكم أيها الحاضرون! وعموا مساء أيها المستمعون!
يقول الجاهلون بحقيقة الإسلام إن تعاليمه لا تتفق مع روح العصر الحاضر. وباطل ما يقولون. بل الحق الذي لا غبار عليه ولا مرية لدى المنصف فيه هو أن الاسلام دين كل تقدم ورقي يأمر بكل فضيلة وينهى عن كل رذيلة أساسه المساواة بين بني البشر. وهيكله المُشاد على ذلك الأساس إنما هو الرحمة والعدل. برهان ذلك قوله عز وجل: [يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم]، وقوله تعالى: [يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا]، وفي آيات كثيرة وأدلة غير قليلة.
علم المسلمون السابقون كما يجب أن يُعلم، وفهموه كما كان يفسر ويفهم، فاطمأنت إليه قلوبهم وارتاحت به ضمائرهم وساروا بتعاليمه السامية في ميدان الحضارة والمدنية ذلك الشوط البعيد.
وهل كانت تلك العصور الذهبية، والآثار التي لا تزال تترجم عن تلك المدنية إلا ظاهرة إسلامية ومظهرا من مظاهر تلك التعاليم الجلية؟


ليس الاسلام بتعاليم جافة وعقائد تُفرَض على الناس فرضا وتلزم العقول إليها إلزاما. كما ترغم النفوس على العمل بها إرغاما، ولكنه عقيدة هي وليدة الإيمان والعلم، وعمل صالح لكل زمان ومكان. هو نتيجة ذلك العلم وذلك الإيمان.
ولولا ذلك لما لبث على ظهر الكرة الأرضية أربعة عشر قرنا بما فيهم من علماء وفلاسفة وحكماء يُحصَون بمئات الملايين.
وإذا وجد في الاسلام صور لعبادات مخصوصة (معقولة الحكمة لعارفيه) فإن فيه أيضا ذلك التشريع وذلك القانون الكفيل بمصالح بني البشر والمنبع الفيّاض بسعادتهم الروحية والجسدية معًا. وليس هو الدين الذي يحمي الروح فقط أو يحافظ على الجسم فقط، ولكنه الدين الذي يحفظ جميع ما للإنسان كروح وجسد.
وليس هو الدين الذي يأمر أتباعه بالعمل والتزود للآخرة ويهمل أمر العمل لدار الدنيا فإن كتابه المقدس يقول: [وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك].
ويقول في دعاء الذين لهم نصيب مما كسبوا: [ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة] كما يقول في الحضّ على العمل الشامل لهما معاً [ليس للإنسان إلا ما سعى]. ولا يهمل الجزاء حتى على قليل العمل لقوله: [فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره]، ويجعل جزاء تلك الدار مترتباً على العمل في هذه الدار، ويقرر بأن لكل نفس ما كسبت كما أن عليها ما اكتسبت.
بنيت أحكام هذا الدين على قواعد هي أعلى مثل الحكمة والهداية للبشر، فمن قواعده أن (درأ المفسدة مقدم على جلب المصلحة) ومنها “لا ضرر ولا ضرار”. ومن أولويات أصوله “نفي الحرج عن الدين” ومن قضاياه التي لا تتخلق “الضرورات تبيح المحظورات” وأن هذه الضرورات إنما تقدر بقدرها فإذا ارتفعت رجع الحكم إلى أصله. وقد رُوعي في كثير أحكامه العمل بقاعدة (سد الذرائع) وكل أحكامه معقولة الحكمة محققة الفائدة والنفع.
وقد أعطانا فائدة جليلة في التسامح وحرية الأديان بقوله [لا إكراه في الدين]. كما أطلق للعقل عقاله ومنحه حرية التفكير بل حثه على النظر والاعتبار واستفزه للتفكر في ملكوت الله الأعلى وملكه المتسع الأرجاء بمثل قول القرآن [إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحي به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون] واستحثنا لاستثمار ما في الكون بقوله عز وجل [الله الذي سخر لكم البحر لتجري الفلك فيه بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون].
وبهذا كانت نفوس معتنقيه مطمئنة وضمائرها مرتاحة. وبه سعدوا كل السعادة إذ ليس من وراء راحة الضمير وصفاء الخاطر من غاية للسعادة ولا وسيلة لجلب السرور والراحة.
ومن عرف الاسلام بحقيقته ونظر إلى حال أمم الغرب المتقدمة اليوم في أعمالها وحرية تفكيرها بما نسميه “تمدنا وحضارة” حكم لأول وهلة بأن هذه الأمم هي إلى دين الاسلام العملي أقرب من أهله إليه وفي أخذها بوجوه هدايته في جلب المنافع ودرء المضار في هذا العصر أسبق من منتحليه ومعتنقيه إذ الاسلام دين علم وعمل لا دين بطالة وكسل يسير مع العقل والعلم جنباً لجنب في كل آن ومكان، ويساير المدنية الصحيحة في كل أدوارها وأطوارها النافعة لبني الإنسان، ولم يُعرف الاسلام بغير هذا لا في القديم ولا في الحديث، ولكن قوماً من المنتسبين إليه أبوا إلا تشويه محاسنه بما هم فاعلون باسمه، وناسبون إليه من أعمال وأقوال هو عنها بعيد ومنها بريء.
وممّا يُؤسف له كل الأسف أن المسلمين اليوم (إلا قليلا منهم) بعدوا عن الاسلام بعدهم عن العلم الموجب للإيمان الصحيح والعمل الصالح الذي هو من مقتضيات ذلك الإيمان ولوازمه.
وقد يهتدي المفكر الحكيم إلى أن الاسلام هو الدين الطبيعي للبشر، الصالح للتأليف بين أجناسهم وأممهم كيفما كان لونهم وجنسهم، وأنه هو الدين الوحيد الذي يساير أدوار الحياة ويسير مع كل مدنية ترتكز على قوتي العلم والحق.
ولا منقذ لهذه البشرية من كروبها التي تعانيها وكل آلامها وأتعابها إلا احتذاء تعاليمه والسير على نورها المستبين وإن لكل ما نشاهده من آثار تمدن العصر النافعة لصلة قوية وعلاقة متينة يمت بها إلى تعاليم القرآن ودين الاسلام وكل ما تشتكي منه الإنسانية المعذبة وتتألم له من هذا التمدن العصري وقد تتحمله مكرهة وتتجرعه ولا تكاد تسيغه، لهو مما حذّر الاسلام منه، ونهى عنه.
وليس التمدن عندنا بتلك المظاهر البراقة والصور الرائعة الخلابة في حال ترتكب فيها الأفعال المخزية، والأعمال المردية، كلا! ولكنه علم وعمل صالح في سعادة، ونظام، وأمن، وسلام، فمرحباً بكل تمدن نرى من نتائجه استتباب الأمن واستبحار العمران وتمهيد طرق المواصلات وسرعة السير إلى الأمام، واستثمار ما أودع الله في الكون من خيرات وكنوز، ومرحبا بالتمدن الذي يحفظ مصالح بني البشر المشتركة مرحباً، ومتى كان قوام هذا التمدن العصري وروحه الحقيقي إنما هو العلم النافع فمرحبا به ألف مرة ومرة. ومرحى لأنصاره ومؤازريه، وإن دين الإسلام ليوجب تطلبه على أتباعه وشد الرحلة (ولو إلى بلاد الصين) للحصول عليه.
وما وقف دين الاسلام في يوم من الأيام ولن يقف أبدا في طريق تمدن مبدأه العلم ومنتهاه العمل الصالح وإسعاد بني آدم بما تصبو إليه قلوبهم وتتمناه نفوسهم في كل عصر وحين، نعم، نرى في تمدننا اليوم رغم حسناته الكثيرة مساوئ لا يحسن السكوت عليها ولا يسوغ للمتشبع بالعقلية الاسلامية قبولها والموافقة عليها بحال من الأحوال، ذلك لما فيها من ضرر محقق وفساد للأخلاق تتبرأ منه وتتنزه عنه شرائع الأخلاق…
هذه كلمتي في الموضوع باختصار والشرح في تفصيل مجملها، ومدلول جملها يطول والفرصة المعطاة لنا من إدارة (الراديو) أو معجزة هذا التمدن العصري- ضيقة، فإلى فرصة أخرى، وإلى اللقاء أيها المستمعون! والسلام عليكم أيها المؤمنون ورحمة الله وبركاته».

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com