عوائـــق النهضــــة: غـيــاب الـنـقــد الــذاتـــي

د. بدران بن الحسن */
إن أمة تسعى للخروج من التخلف والهامش، والانتقال إلى تحقيق النهضة الحضارية، وتحقيق الحضور بين أمم العالم، لجديرة بأن تسعى إلى التخلص مما يعوقها عن تحقيق ذلك، قبل أن تبدأ بوضع لبنات البناء الجديد، وتحقيق الممكنات التي تساهم في بناء مشروعها النهضوي.
ولعل من معيقات تحقيق نهضتنا، غياب النقد الذاتي. وهذه المشكلة ليست جديدة في الحقيقة، بل مشكلة مستعصية، تنبه لها رواد الإصلاح والتجديد بمختلف مدارسهم، لكنها لم تجد حلها بعد، ولم تتحول إلى ثقافة؛ أي لم يتحول النقد الذاتي إلى مبدأ وسلوك يومي في أعمالنا ومواقفنا وأفكارنا، أفرادا وجماعات ومؤسسات ومجتمعات. ولقد شعر مالك بن نبي رحمه الله منذ وقت مبكر من نشاطه الفكري الإصلاحي بأن المثقفين في العالم الاسلامي لم يهتموا بالنقد، ولم يدرجوه برنامجا ضمن برنامجنا الثقافي لبناء ثقافة النهضة. حيث يقول: «فمثقفو المجتمع الإسلامي لم يُنشئوا في ثقافتهم جهازاً للتحليل والنقد إلا ما كان ذا اتجاه تمجيدي يهدف إلى إعلاء قيمة الإسلام. أما القادة السياسيون فإنهم لم يؤمنوا بضرورة إنشاء مثل هذا الجهاز ليراقبوا مسيرة العمل في بلادهم. هكذا أضحى عمله التاريخي منذ قرن خارج مقاييس الفعالية، وأضحى تنفيذه في ظل فوضى الأفكار. وإذا وجد هذا العمل نفسه مصطدماً بصعوباتٍ، وإهدارٍ للوقت، وتبديد للوسائل وانحرافاتٍ؛ فذلك ناتجٌ عن عدم التماسك في الأفكار، وطغيانِ الأشياء أو طغيانِ الأشخاص»(مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي، ص78-79).
إن عدم تماسك الأفكار وطغيان الأشياء أو الأشخاص، يتسبب في فوضى الأفكار، وبناء عليه يؤدي إلى تعطيل أي مشروع للخروج من التخلف بمختلف أبعاده. ولا علاج لذلك إلا بتحويل النقد الذاتي ركنا اساساً في ثقافتنا، بحيث نربي أبناءنا وأنفسنا على نقد افكارنا ومواقفنا وتصرفاتنا، كما ينبغي أن ندرج النقد الذاتي ضمن برامجنا التربوية والثقافية، لتتكون لنا حساسية ضد الفوضى، وضد تنكب سنن الله في الكتاب وفي الانفس والافاق والتاريخ، ويتشكل عندنا وعي سنني، نتحصن بموجبه من الفوضى التي نعيشها.
ولعل أحدنا يتساءل عما نعنيه بالنقد الذاتي، فنقول أن من أهم معاني النقد في اللغة مما له صلة بموضوعنا أن النقد تمييز الجيد من الرديء، والخبيث من الطيّب، والحسن من القبيح. وحتى يكون النقد إيجابيا فإنه يعمد إلى تثبيت الطيب والإيجابي والجيد والحسن، ويطرح جانباً كل خبيث ورديء وقبيح.
وكما يقول الأستاذ سلمان العودة في كتابه (لماذا نخاف النقد) أن النقد في الشرع يعني: معرفة الخطأ والصواب، ويعني: الثناء على الخير ومدحه، وذم الشر ونقده، سواء أكان هذا الخير أو الشر في شخص، أو كتاب، أو عمل، أو هيئة، أو دولة، أو جماعة، أو أمة، أو غير ذلك. وهذا هو المعروف لدى أهل العلم والإيمان أفرادًا. فهناك موازنة بين جهتين في الشيء أو الفعل، ثم فيه تثبيت لإحداهما ونفي للأخرى.
ومن هنا نقول: إن عملية النقد في معناها الحقيقي ممارسة الملاحظة الدقيقة على الفعل البشري في أي صورة كان؛ فكرة أو ممارسة، ووزنه بالمعيار العلمي، وإعمال الموازنة بين سلبياته وإيجابياته، ثم محاولة الحفاظ على الإيجابي منه، وتثمينه، والدفع به إلى الاستمرار، والبحث عن كوامن الزلل والانحراف والغلو المنتجة للجانب السلبي لذلك الفعل وتفكيكها وعزل مفعولها، وتقويم ذلك الزلل حتى لا تحدث هزة في الفعل، وحتى يتكامل الفعل وينمو خالياً من كوامن الخلل، ويؤتي ثماره.
والنقد بالمفهوم الإيجابي رصد الإنسان في دوائره المتعددة؛ فرداً وجماعة، وتمحيص ما كسب وما اكتسب بالتعبير القرآني (لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت)، حيث يزن الإنسان الفكرة أو التصرف بحسناته وسيئاته، ويهب قليله لكثيره، فإذا كانت له إيجابيات أكبر مما عليه من سلبيات على المدى القريب والبعيد عدّ الفعل حسناً، وإذا كان على غير ذلك عدّ الفعل سيئاً.
أما المقصود بالذاتي، فإنا نعني به أن نمارس نحن النقد لأنفسنا، في أقوالنا وافعالنا، وفي مستوانا الفردي والجماعي، وفي مستوانا المؤسسي والمجتمعي. ولا ننتظر أن ينتقدنا غيرنا، أو يسمنا ويصنفنا تصنيفات من عنده؛ سواء أكانت صحيحة ام خاطئة. وحتى وإن كان النقد من خارجنا، فإنه ينبغي علينا تقبله، وذلك إذا استطعنا أن نحول النقد إلى جزء أصيل من ثقافتنا وبرامجنا ومؤسساتنا.
وللأسف فإننا نحن المسلمين اليوم، بمختلف توجهاتنا، نعاني في أغلبنا من عقدة رفض النقد، الأمر الذي يجعلنا نتمادى في أخطائنا من دون أن ننتبه لها، وقد يكون سبب هذا الرفض هو التهرب من تحمل مسؤوليات نتائج الانحرافات التي تحدث بين الحين والآخر في مسيرتنا النهضوية، بحيث أنه يتم اللجوء إلى اتهام الآخر أحيانا واتهام التراث في أحايين أخرى لتبرير العجز أو الخطأ في مقابل الحذر المفرط من توجيه جهاز النقد والفحص للذات. كما أن ثقافتنا المتداولة تفتقد إلى بعد مهم في برنامجها، وهو بعد النقد؛ والنقد الذاتي بخاصة.
وآن لنا أن ندرج التعليم والتدريب على نقد الذات ضمن برامجنا التربوية، ليتحول نقد الذات وموازنة افعالها وتصرفاتها ضمن ثقافتنا المتداولة، لنفتح الطريق إلى الخروج من الفوضى وتحقيق الفعالية.
مركز ابن خلدون للعلوم الإنسانية والاجتماعية/ جامعة قطر