{وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ} …
د. بوزيد شتوح/
حينما ندقّق في أساليب القرآن الكريم وطرق علاجه للفتن التي تحيط بالـمسلم وللأهوال التي قد تزعزع كيانه والأزمات التي قد تبدّل عقيدته وتغيّر مبادئه، فسنجد أنّه يستعمل الكثير من الأساليب والعبارات التي تنزل بلسما شافيا وعلاجا كافيا لكل سقم، ومن أمثلة هذه الأساليب قوله تعالى: {وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ}، استُعملت هاته الجملة – أو ما يقارب معناها – كجرعة دواء شافية لكل هول من الأهوال أو كرسالة اطمئنان نفسي واستقرار عاطفي لكل ابتلاء يتعرّض له الـمسلم، وقد تركّز مضمونها على عضو أساسي يجمع بين الجانب الروحي (كالعقيدة) والجسدي (كالنّبضات) والنفسي (كالخوف) ألا وهو القلب، فهو محلّ نظر الله، وهو الـمقياس الحقيقي الذي به يُعرف صلاح الجسد من فساده، كما جاء في الحديث النّبوي الشّريف الذي رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث النّعمان بن بشير الذي يقول: سـمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:”(…) ألا وإنّ في الجسد مضغة: إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب”.
ولذلك نلحظ دقّةً وعنايةً في انتقاء “القلب” للتّعبير عن العلاج من الفتن والأزمات والابتلاءات التي تضمنتها سياقات هاته الآية في القرآن الكريم.
ولو أردنا أن نتتبع سياقات استعمال هذه الآية كعلاج ودواء نفسي وعقائدي، لوجدنا أنها تدلّ على معنى الصبر والثبات – عموما – كما جاء في قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (آل عمران: 200).
هذا عن معنى الصبر والثبات في عمومه، وفي سياق آخر تدلّ على معنى الصبر والثبات في موقف الشّدّة والأهوال كما جاء في سياق معركة بدر قولُه تعالى:{إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ}(الأنفال: 11). فقد خُصَّ بالرّبط على القلب في هذه الآية الكريمة للدّلالة على الثبات والاستقرار وعدم اضطرابه بسبب الخوف والفزع، وما يؤكد هذا المعنى هو أن الله تعالى أنْعَمَ على جيش الـمسلمين شيئا من النّعاس وهو النوم القليل؛ حتى يكون أمنا لهم من الخوف؛ لأنهم لـمّا ناموا زال أثر الخوف من نفوسهم في مدة النّوم فتلك نعمة، ولما استيقظوا وجدوا نشاطًا، ونشاطُ الأعصابِ يكسبُ صاحبَه شجاعةً ويُزِيل شعورَ الخوف الذي هو فتور الأعصاب (كما ذكر الشيخ الطاهر بن عاشور في تفسيره).
ومـمّا يشير كذلك إلى دور هذه الآية الكريمة – كدواء – في تهدئة النّفس والتخفيف من ألـمها نتيجة الابتلاء هو أمّ سيدنا موسى عليه السلام لـمّا استودعت ابنها في اليمّ وهو لازال في مهده وذلك في قوله تعالى: {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}(القصص: 10)، أي: لـمّا أصبح فؤادها فارغا من الصبر والثبات؛ إذ خامرها خاطر شيطاني فقالت في نفسها: إني خفت عليه من القتل فألقيته بيدي في يد العدو الذي أمر بقتله، لـمّا حدث كلّ هذا الابتلاء ربط الله على قلبها حتى تثبُتَ وتطمئنّ على ولدها، وتثق جيدا بوعد الله تعالى بأنه في عنايته ورعايته، حتى يكبر ويصير نبيا يوحى إليه ويُردّ إليها في أحسن أحواله.
هذا من جهة الاستقرار النفسي، وأما من جهة الاستقرار العقائدي فقد جاءت استعمال هذه الآية الكريمة كدرعٍ قويّ ودواء شافٍ لكلّ مظهر من مظاهر الشرك والكفر والطغيان، ومن أمثلة ذلك استعمالها في سياق أهل الكهف، وذلك في قوله تعالى:{وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا}(الكهف: 14).
فالله عز وجل شهد لأهل الكهف أنّ في قلوبهم إيمانًا وهدى ورشدا كما في قبل هذه الآية قوله تعالى:{إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى}، ولكن هذا الإيمان يـحتاج إلى ثباتٍ ورباطةِ جأشٍ خاصّةً في مواقف الشدة؛ حتى لا يتزعزع، فجيء باستعمال (ربطنا على قلوبهم) للدّلالة على أنّ هؤلاء الفتية وقفوا صامدين ثابتين على عقيدة التوحيد (ربّنا ربّ السّماوات والأرض) معلنين بذلك في مجامع قومهم على فساد عقيدة الشرك والطغيان. فلمّا ثبتت عقيدتهم ورُبطت قلوبهم بإحكام لم يضطربوا ولم يتزعزعوا، بل تشبّثوا – بتوفيق من الله – على الحق وابتعدوا عن الباطل.
ومفاد الكلام أنّ هذه الآية الكريمة استُعملت كردّ فعل على الأهوال والـمصائب والـمحن والأزمات التي قد تجابه الـمسلم في حياته، فساهمت في وجود نوعين من الاستقرار (نفسي، وعقائدي)، فحريٌّ بنا أن ندعوَ بها ربنا عز وجل لـما نشهده في واقعنا من فتن وابتلاءات ومصائب تحيط بنا من كلّ حدب وصوب، كالوباء العالمي الذي حصد الملايين من البشر، سائلين المولى عز وجلّ أن يربط على قلوبنا ويثبّت أقدامنا وينصر أمّتنا نصرا مؤزّرا، إنه ولي ذلك والقادر عليه.