مقاربات

جامعة قسنطينة (1969 ــ 1975)بمناسبة مرور نصف قرن على تأسيسها تيارات فكريـــــة بالجامعــــــــة(6)

أ. د. محمد عيلان */

لعله من باب الذكر الإشارة إلى القضايا التي طرحت في زمننا على مستوى الجامعة بقسنطينة في أوساط بعض الأساتذة والطلبة، وكانت صدى لتيارات خارج الجامعة كالأمازيغية، الإسلاموية، الفرانكوفونية، العروبية، الباديسية، وما ترتب عنها من صراعات ومشادات وصلت حد التصادم الجسدي، بازدياد العنف الأيديولوجي داخل الحرم الجامعي على مستوى الطلبة خلال السبعينيات، إذ كان لكل تيار داخل الحرم الجامعي مرجعيته وقادته.
ويمكن إرجاع هذا الصراع إلى خمسة عوامل:
أحدها مستمد من اختلاف الاتجاهات الفكرية خلال الأربعينيات وما بعدها بين التيارات المختلفة في حزب الشعب، وانقسام مناضليه إلى مصاليين ومركزيين، وحزب انتصار الحريات الديمقراطية، والبيان، وما تولد عن ذلك من تحديد أسلوب مواجهة الاستعمار بعد أحداث الثامن ماي 1945م. واختلاف الطلبة الجزائريين فيما بينهم بفرنسا والجزائر في ضبط المرجعية للتنظيم الطلابي.
ثانيها: التيار الإسلامي المتمثل في جمعية العلماء واتجاهها نحو التربية والتعليم، وحضورها القوي على مستوى القاعدة الشعبية بمؤسساتها وطلبتها، وخريجي مدارسها ومعاهدها والدور الذي قاموا به في الحفاظ على هُوية الجزائر.
ثالثها: تطور الاتحاد العام للطلبة المسلمين الجزائريين (U.G.E.M.A)، وتخليه عن الاسم القديم، وتبنيه لاسم جديد؛ (الاتحاد الوطني للطلبة الجزائريين (U.N.E.A) بعد الاستقلال في مؤتمره الرابع المنعقد عام 1964م، وما ذلك إلا نتيجة من نتائج الصراع الذي أشرت إليه.
كما أن هذا المؤتمر ترتب عنه فيما بعد مؤتمر آخر سمي بـ (مؤتمر الطلبة الملتزمين) عقد في ديسمبر من عام 1969، أَعَد له حزب جبهة التحرير الوطني وعقد بالجزائر العاصمة في قصر الأمم، في مواجهة تيارات طلابية أخرى غير رسمية، وقد حضرته بصفتي طالبا.
رابعها: الخلاف بين النخب الجزائرية وامتداداتها في الطلبة بعد الاستقلال حول (المرجعية الفكرية للدولة الجزائرية الحديثة).. ومن هذه الخلفيات وغيرها نشأ جدال فكري وسياسي بمرجعيات متعددة في (الحرم الجامعي). وكان الحوار والخلاف يرتكزان على الدور النضالي في بناء الجزائر المستقلة، في ضوء مرجعية الدور السياسي للطلبة الجزائريين في الحركة الوطنية، وفي الثورة التحريرية.
خامسها: أحداث الشرق الأوسط وما نتج عنها من انكسار في نفسية الإنسان العربي، وظهور التيارات الإسلاموية، ومصطلح (الصحوة الإسلامية)، إلا أنه بحكم التلقي المعرفي، والتنوع اللغوي والثقافي بين الطلبة في الجامعة أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات، لم يكن لهذه التيارات الحضور القوي في الصراع بالجامعة بقدر ما كان لها الحضور خارج الجامعة.
وكانت هذه التيارات تدين الاتجاهات الفكرية والسياسية السائدة في المجتمعات العربية، وما نتج عنها من صراع بين التشكيلات والانتماءات الطلابية فيما بعد.. وتبنى البعض منها الأفكار التي طرحها المفكر الجزائري (مالك بن نبي) التي تؤسس لرؤية جديدة في مواجهة مركزية الحضارة الأوروبية الحديثة، ومقولة (مونتسكيو) في القرن الثامن عشر: (محكوم على شعوب الجنوب أن تظل في خدمة شعوب الشمال). وكأني بمالك بن نبي يريد من ذلك توضيح رؤيته الحضارية التي مفادها: إنه إذا كان الغرب مرجعيته الحضارة اليونانية والرومانية، يستلهمهما وتُكَوِّنان لديه منطلقا حضاريا تولدت عنه المركزية الأوروبية؛ فإن الجنوب له مرجعيته الحضارية، ولا نجدها إلا في الحضارة الإسلامية: (مساحة جغرافية، وتعدادا بشريا، وتدوينا للمعرفة، وامتلاكا لوسائلها)، ومن هنا فإنه يرى بأن المرجعية الوحيدة هي (الحضارة الإسلامية) التي يمكن أن تُسْتَلْهَم لينهض الجنوب في مواجهة (مركزية) الحضارة الأوروبية الحديثة، وَوَضْع حد للاستغلال والاستعمار، ورَسَمَ الخط المعروف (طنجة ـــ جاكرتا) للفصل بين الحضارتين، وتحديد خصائصهما.
لكن الذي لم يكن فهمه واضحا أثناء الحوار بين بعض الأساتذة وبعض الطلبة آنذاك من فكر مالك بن نبي في الحرم الجامعي هو: أن الحضارة الإسلامية (حضارة تكليف)، بينما الحضارة الغربية الحديثة قامت على عناصر ثلاثة: (العقل، العلم، الزمن) مستلهمة الفكر اليوناني والروماني في تحولاتها، وأن الحضارات الثلاث (اليونانية والإسلامية والحديثة) هي التي ارتقت بالبشرية لكونها نَظَّرَت للمعرفة، ولا يمكن لها إلا أن ترتقي بالإنسان؛ كل من موقعه في إطار من التعايش والتسامح.
وقد حدث ذات مرة جدال بالحرم الجامعي بيني وبين بعض الطلبة كما كانت العادة، حيث أَبَنْتُ بأن الحضارة الإسلامية اعتنت بالإنسان وأولته كل عنايتها للعيش الكريم، والدليل على ذلك أن الحضارات أغلبها نشأ حيث مصادر الطاقة التي منها (الماء) فأَعَدَّت هياكلها ومنشآتها الضخمة، مما لم يتوفر للحضارة الإسلامية في بدايتها، من هنا كان للحضارة الإسلامية تميزها بما ينجزه الإنسان مستلهما قيمها الإلهية.
ومن الجدير بالذكر أيضا أن هذه التيارات التي ظهرت في الجامعة تطوَّر الصراع بينها، ليتحول من المرجعية التاريخية والفكرية، إلى صراع آخر تجلى من خلال انقسامات أخرى؛ كالمعربين والمفرنسين. وعلى مستوى التكوين: الطلبة مزدوجي اللغة، والطلبة أحاديي اللغة، والطلبة حملة بكالوريا التعليم الأصلي والطلبة حملة بكالوريا التعليم العام، والطلبة الذين التحقوا بالجامعة بالامتحان الخاص وهكذا.
لكن الملاحظ أن الطلبة في هذه المرحلة لم يكن الحوار بينهم حوارا واضح المعالم حيث انطوى كل تيار على مرجعيته يستلهمها، ويراها بأنها الطريق الأصح للمسار الفكري للدولة الجزائرية، يضاف إلى ذلك أن أغلب الطلبة لا يقرأون للآخر المخالف لهم، ويتبنون آراء قادتهم في تجمعاتهم، وفي ذلك تستوي التيارات المحافظة والتيارات المتبنية للفكر الحديث، وليس لديهما الزاد الفكري لفهم مرجعية الآخر، فبعض المعربين ومن يلحق بهم يرون أن مرجعية الآخر أي (غير العربية الإسلامية) ليست أنموذجا في بناء المجتمع الجزائري ومن ثم الدولة الجزائرية. أما الطلبة ذوو الثقافة باللغات الأجنبية فقد قادهم تكوينهم في مجال الحضارة والحداثة وتطلُّع الشعوب التي ناضلت من أجل الحرية في افريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، إلى تبني النظم الاشتراكية مرجعا في النظر إلى الواقع، وخاصة مرحلة الثورات الثلاث (الثقافية والزراعية والصناعية) التي كان إنجازها على أشده.
وهكذا كنا نلمس تطرفا خفيا تمثل في رفض مرجعية الأخر الفكرية والثقافية، ولكن ذلك كان داخل الحرم الجامعي.
لكننا لا نعدم للأساتذة حضورا في الصراع الفكري واللغوي؛ تجلى في تكوينهم المعرفي ومرجعيتهم الفكرية أيضا، وأصبحنا نلمح من خلال الحوار والنقاش تيارين داخل الحرم الجامعي وإن لم يكونا بارزين وواضحي المعالم:
1 ــ تيار ذوي الثقافة الفرنسية: يتكون من أساتذة جزائريين يدَرِّسون باللغة الفرنسية، ومن أساتذة فرنسيين أو من بعض البلدان الناطقة بالفرنسية في إطار التعاون الأجنبي في مراحل التعليم.
2 ــ تيار ذوي الثقافة العربية: يتكون من أساتذة جزائريين وهم عدد محدود، يدرِّسون باللغة العربية، تكونوا في الجزائر على عددهم القليل وفي بعض البلدان العربية؛ كالعراق وسوريا ومصر والسعودية وتونس، وأساتذة عرب قدموا من بعض البلدان العربية: سوريا والعراق ولبنان وتونس والسعودية وفلسطين..
الحلقة القادمة: التجليات الأيديولوجية للطلبة بالجامعة

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com