سياســــة الخلفـــاء الراشـــديـــن في تسـيــيــر الدولـــة وإمــامـــــة الـمسلميـــن
الشيخ محمد مكركب أبران/
من بين العلوم الشرعية الدينية باب واسع كبير، ذو مقاصد بالغة الأهمية، في بناء المجتمع الفاضل، والدولة المدنية، هذا الباب من العلوم الشرعية الكبرى يسمى {علم السياسة الشرعية} المستمد من القرآن الكريم والسنة النبوية، وتطبيقه العملي في السيرة النبوية. ومجال السياسة الشرعية سبعة ميادين:{الإمامة والسلطة، والقضاء والعدل، والدفاع والحماية، والدعوة والإعلام، والتربية والتعليم، وبيت مال المسلمين، والاقتصاد والعمران.} وفي عهد النبي عليه الصلاة والسلام كان هو الذي يسوس الأمة، فقد كان عليه الصلاة والسلام، إمامهم في الصلاة، وإمامهم في الجهاد والغزوات، وإمامهم في تسيير شؤون الدولة. وكانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
ومن بعد النبي صلى الله عليه الصلاة والسلام كان الخلفاء الراشدون رضي الله عنهم. وأولهم أبو بكر الصديق. خليفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- واسمه: عبد الله بن أبي قحافة بن عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة. ويلقب بعتيق. عن ابن عباس قال: إنما سمي عتيقًا لحسن وجهه، وقيل سماه النبي، وقيل سمته أمه بدعائها ربها. واشتهر بالصديق منذ صبيحة ليلة الإسراء والمعراج. قال ابن كثير: اتفقوا على أن اسمه (عبد الله بن عثمان). ولد بعد مولد النبي -صلى الله عليه وسلم- بسنتين وأشهر؛ فإنه مات وله ثلاث وستون سنة. في آخر السنة الثانية عشر، للهجرة.
ولي الخلافة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم. أخرج الواقدي من طرق عن عائشة، وابن عمر، وسعيد بن المسيب، وغيرهم -رضي الله عنهم- أن أبا بكر بويع يوم قبض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول سنة إحدى عشرة من الهجرة.
وكانت كثير من الأحداث تنبئ له بالخلافة من بعد النبي صلى الله عليه وسلم، كما ورد في هذا الخبر. عن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه، قال: أتت امرأة النبي صلى الله عليه وسلم، فأمرها أن ترجع إليه، قالت: أرأيت إن جئت ولم أجدك؟ كأنها تقول: الموت، قال صلى الله عليه وسلم: [فَإِنْ لَمْ تَجِدِينِي فَأْتِي أَبَا بَكْرٍ] (أخرجه البخاري «3659/7)
وقد أَمَّ الناس في الصلاة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم. ففي الخبر، عن سهل بن سعد، قال: كان قتال بين بني عمرو بن عوف، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فأتاهم ليصلح بينهم بعد الظهر، فقال لبلال: [إن حضرت صلاة العصر ولم آتك، فمر أبا بكر، فليصل بالناس] فلما حضرت العصر أذَّن بلال، ثم أقام، ثم أمر أبا بكر، فتقدم، قال في آخره: [إِذَا نَابَكُمْ شَيْءٌ فِي الصَّلَاةِ فَلْيُسَبِّحِ الرِّجَالُ، وَلْيُصَفِّحِ (يُصَفِّق) النِّسَاءُ] (رواه أبو داود:941/1).
وهذه خطبته يوم ولي الخلافة. خطب الناس فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: {أَمَّا بَعْدُ أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ وَلِيتُ أَمْرَكُمْ وَلَسْتُ بِخَيْرِكُمْ وَلَكِنْ نَزَلَ الْقُرْآنُ وَسَنَّ النَّبِيُّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – السُّنَنَ فَعَلَّمَنَا فَعَلِمْنَا. اعْلَمُوا أَنَّ أَكْيَسَ الْكَيْسِ التَّقْوَى وَأَنَّ أَحْمَقَ الْحُمْقَ الْفُجُورَ. وَأَنَّ أَقْوَاكُمْ عِنْدِيَ الضَّعِيفُ حَتَّى آخِذَ لَهُ بِحَقِّهِ وَأَنَّ أَضْعَفَكُمْ عِنْدِيَ الْقَوِيُّ حَتَّى آخِذَ مِنْهُ الْحَقَّ. أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا مُتَّبِعٌ وَلَسْتُ بِمُبْتَدِعٍ. فَإِنْ أَحْسَنْتُ فَأَعِينُونِي وَإِنْ زُغْتُ فَقَوِّمُونِي.}. (ابن سعد في الطبقات الكبرى ط. العلمية. 136/3). ونص الخطبة عند الطبري:{أَمَّا بَعْدُ أَيُّهَا النَّاسُ، فَإِنِّي قَدْ وُلِّيتُ عَلَيْكُمْ وَلَسْتُ بِخَيْرِكُمْ، فَإِنْ أَحْسَنْتُ فَأَعِينُونِي، وَإِنْ أَسَأْتُ فَقَوِّمُونِي الصِّدْقُ أَمَانَةٌ، وَالْكَذِبُ خِيَانَةٌ، وَالضَّعِيفُ فِيكُمْ قَوِيٌّ عِنْدِي حَتَّى أُرِيحَ عَلَيْهِ حَقَّهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَالْقَوِيُّ مِنْكُمُ الضَّعِيفُ عِنْدِي حَتَّى آخُذَ الْحَقَّ مِنْهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لا يَدَعُ أَحَدٌ مِنْكُمُ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَإِنَّهُ لا يَدَعُهُ قَوْمٌ إِلا ضَرَبَهُمُ اللَّهُ بِالذُّلِّ، وَلا تَشِيعُ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ إِلا عَمَّهُمُ اللَّهُ بِالْبَلاءِ أَطِيعُونِي مَا أَطَعْتُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَإِذَا عَصَيْتُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَلا طَاعَةَ لِي عَلَيْكُمْ قُومُوا إِلَى صَلاتِكُمْ رَحِمَكُمُ اللَّهُ!} (الطبري:3/210)
قال مالك: {لا يكون أحدًا إمامًا أبدًا إلا على هذا الشرط} هل علمت ما معنى قول مالك؟ معناه: أن الحاكم لايكون حاكما بحق إلا إذا كان كأبي بكر وعمر في الحكم. وأن أي أحد لايستحق أن يكون إماما للدولة إلا إذا كان قادرا علما وفقها وقدرة على أن يحقق لكل ذي حق حقه بالتمام، كما تنص شريعة الإسلام، وأن يقيم الدين والعمران، ويحقق الأمن والأمان، وإلا فليجلس في بيته كأحد من عباد الرحمن.
أولا: من السياسة الشرعية: سياسة الوفاء والأمانة والثقة: الحاكم المسلم الحق من كان يؤتمن على بيت مال المسلمين، من الإبرة، إلى الأراضي والثروات، فلا يضيع درهم واحد من مال المسلمين. ويحفظ وديعة أفقر الناس وأحقرهم، في المجتمع، هل فهمت مدلول هذا الخبر؟ أيها الحاكم؟؟ عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهم، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لو قد جاء مال البحرين قد أعطيتك هكذا وهكذا وهكذا»، فلم يجئ مال البحرين حتى قبض النبي صلى الله عليه وسلم، فلما جاء مال البحرين أمر أبو بكر فنادى: من كان له عند النبي صلى الله عليه وسلم عدة أو دين، فليأتنا، فأتيته فقلت: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال لي: كذا وكذا، فحثى لي حثية، فعددتها، فإذا هي خمس مائة، وقال: خذ مثليها.] (البخاري «2296/4) هل علمتم مدلول هذا الخبر؟ متى يثق المواطن في دولته؟ عندما يعده المسؤول بأن يعطيه في التاريخ الفلاني كذا وكذا. فإذا حان التاريخ أعطاه، فإن غاب وجاء مسؤول مكانه أعطاه الحق الذي وُعِدَبه بالتمام، لأن المواطن يتعامل ويتعاقد مع مؤسسات الدولة، حينها تثق الرعية في راعيها،.
ثانيا: ومن السياسة الشرعية: أن يدوم القانون، وتحفظ العقود، والمعاهدات: فيأمن الناس على ما تعاقدوا عليه. فيظل الدستور هو الدستور طول حياة المجتمع، وغير مخالف للدين. ويظل قانون البيع والشراء. فيأمن الناس على ملكياتهم الأرضية العقارية والمالية، والعهود والضمانات.
ثالثا: ومن السياسة الشرعية: ضمان الحقوق الأصلية لكل أفراد الرعية: حق الملكية في الحلال، في كل ما أحله الله تعالى، فلا يُغتصب حق ملكية أحد. في النقود والعقارات ما دام لم يظلم ولم يعتد على أحد. وحق الموطن في التنقل حيث شاء ما دام لا يعتدي على أحد. وأن يُضمن حق التعلم لكل فرد. وحق العمل والاحتراف لكل فرد بقدر استطاعته وفي حدود ما يملك. وحق ممارسة التجارة لكل فرد، وأن لايترك الخراج أو ما يسمونه الضريبة، أن لا يترك لتقديرات متغيرة ومرتجلة وبناء على اجتهادات شخصية وتعليمات مصلحية، بل السياسة الشرعية تفرض أن يكون مقدار الخراج معلوما وثابتا للجميع يعلمه العامة والخاصة، بنسب على رأس مال الثروة لايتغير. وأن تعلن حصيلة الدخل القومي لمال المسلمين كل سنة، ويوقع على البيان المفتي العام، ومساعدوه من العلماء.
رابعا: ومن السياسة الشرعية: إعداد مجلس الشورى من العلماء الفقها (قلت من العلماء الفقهاء) المجتهدين: وهذا المجلس يرأسه المفتي العام. كان أبوبكر يستشير العلماء من الصحابة. وقد اعترضهم حدثان كبيران بارزان: وهما الردة، وتمرد بعض الناس على الدولة، وأعلنوا العصيان بامتناعهم عن أداء الزكاة. والحدث الثاني: انطلاق الفتوحات خارج الجزيرة العربية. ولكن الخليفة أبا بكر الصديق بسياسته الحكيمة التي استمدها من السياسة النبوية، والصحابة الصادقون معه الذين امتازوا بالطاعة والتطاوع، تغلبوا على هذه الصعوبات الشاقة المرهقة، وتغلبوا على فتن الردة، التي كانت أول امتحان عصيب واجه الخلافة.