وفيات الأعيان…
يكتبه د. محمّد قماري/
هناك قضايا ثقافيّة كبرى ذات صلة بالمجتمع، تتردد في الفضاء الثقافي والإعلامي في المجتمعات الغربيّة، ولأنَّ تلك المجتمعات هي المجتمعات (الغالبة) حضاريًا، فإنَّ مجتمعاتنا المغلوبة أو النخب فيها، تعمل عمل (الفضاء الخالي)، ونسمع رجع صدى تلك القضايا في مجتمعنا، نسمعها ضجيجًا يفتقد إلى صفاء المصدر ورونقه…
وإنك لتسمع مثلا حديثًا عن (الرأي العام) وعن (الذوق العام)، تسمعها في وسائل الإعلام، وتقرأها في نصوص الكتَّاب، وربما بحثت عن هذه المصطلحات في بيئتها الأصلية، وترجع من بحثك مهزومًا مكسور الخاطر!
ذلك أن هذه المصطلحات ليست كلمات تلوكها الألسن، فالرأي العام قضية حقيقية لها مراصدها وأدوات قياسها، وهي قبل ذلك نتاج تربيّة تقوم عليها المدرسة والإعلام وخطابات الساسة في المجتمع، والهدف منها أن ينخرط المجتمع كله في مسيرة صوب تحقيق الأحسن والأجمل والأرقى، وتجعل الذوق العام يمج ويرفض كل قبيح، يستقبح الاستبداد السياسي، والتبذير الاقتصادي، واعوجاج السلوك…
إنها مسيرة طويلة ومستمرة، ترفض السكوت عن قاذورات الطرقات، وقاذورات المرافق، وقبلها قاذورات الأنفس المنحرفة، وترفع من شأن قادة المجتمع في الفكر والثقافة وتجعل تقدم الصفوف في المجتمع وفق قاعدة: من يضحي أكثر لا من يأخذ أكثر، ومنه يغدو أفراد المجتمع (يسارعون في الخيرات)، الجميع يركض ويسارع من أجل رفاهيّة الجميع!
ولأنَّ الأفراد ليسوا سواء في قدراتهم الفردية، وليسوا سواء في استعداداتهم ومواهبهم، فيخرج من بين الصفوف (أبطال) أو (نجوم) أو (أعيان) أولئك هم القادة، الساعون المسارعون في تقديم الأجود والأحسن لمجتمعهم، يضحون بكل عزيز عليهم من أجل غيرهم، وقديمًا قال المتنبي:
لَوْلا المَشَقّةُ سَادَ النّاسُ كُلُّهُمُ *** الجُودُ يُفْقِرُ وَالإقدامُ قَتّالُ
وَإنّمَا يَبْلُغُ الإنْسانُ طَاقَتَهُ *** مَا كُلّ ماشِيَةٍ بالرّحْلِ شِمْلالُ
و(الشَملالُ) هي الناقة الخفيفة التي تسرع في المشي، فليس كل الأفراد قادرٌ على (المشَقَّة) وتكاليف التضحيَّة، من إنفاق للمال وإقدام في بذل ما يصلح من شأن الآخرين، إذ أغلب النفوس تنظر إلى الدنيا من خلال أنانيتها الضيقة، ماذا أكسب؟ ما الفائدة التي تعود عليَّ أنا؟ ويكفر بما وراء جيبه ومتعته الشخصية…
والغريب أن محور الزمن لا يسجل إلا أسماء أولئك الأبطال، فتخلد وتعيش خارج نطاقها الجغرافي والزمني، فمن هو (بلال الحبشي) مثلاً، إنه عبدٌ مملوك تتبادل عليه أيدي مالكيه في منطقة صحراوية معزولة من العالم، اسمها في ذلك التاريخ (مكة)، يحج إليها بعض الناس ممن بقت لديهم شيء من دين الإبراهيمية، وأزعم أن كثيرا من سكان مكة لا يعرفون ذلك (العبد)، فما الذي جعل اسمه يتردد بعد مضي خمسة عشر قرنا في القارات الخمس؟
وقد كان يُقدر لشاب مثل الشهيد العربي بن مهيدي، أن يكون عاملاً في إحدى الورش أو المزارع في بلدته، فما الذي جعل الجنرال بيجار يتمنى أن ثلة من أمثاله في جيش فرنسا؟ وعلى ذلك تقاس حياة المقراني والأمير عبد القادر وابن باديس…أولئك المسارعون في طريق اسعاد غيرهم، وطريق بذل الجهد والمال والوقت من أجل النهوض بحياة الآخرين ورقيها…
والأبطال والنجوم في التاريخ كثير، وتتحقق لهم البطولة النجوميّة بشرط أن يخرجوا من حاجاتهم ومطامعهم، ويتجاوزون (الأنا) ويجعلونها تذوب في وعاء مجتمعاتهم، منهم العلماء في مختلف ضروب المعرفة، ومنهم قادة جيوش وجنود، ومنهم مصلحون وأدباء…
تلك خواطر انثالت عليَّ وأنا اتصفح ذلك السفر العظيم (وَفيَات الأعْيان)، وهو موسوعة حقيقية ألفها أبو العباس بن خلّكان، وغن تعجب من غزارة مادة الكتاب وطول نفس صاحبه وصبره على التأليف، فإن اعجابك وعجبك ليترسخ وأنت ترى ذلك الشعاع الذي انطلق منه، إنه شعاع (البطولة) فأبطال المجتمع قد يكونوا علماء شريعة أو أطباء أو حكام أو أدباء…
تقرأ، مثلاً، في الجزء الرابع ترجمة للطبيب الأديب أبي بكر بن زهر، فيحدثك عن أسرة احترفت الطب في الأندلس، ويحدثك عن رجل جمع إلى حذق المداواة ووصف العلل والأدوية، جمع إلى ذلك حسن العبارة ورقي المعاني ورقيق المشاعر…
ومن أرق ما جاء في تلك الترجمة، وصيةُ ابن زهر بأن ينقش على قبره أبياتٌ من الشعر، تذكر الناس بأنه وإن كان يداوي عللهم من قبل، فلا قِبل له بأن يدفع الموت وسلطانه عن نفسه، وفي ذلك تخليدٌ وبطولة من رجل خبر فلسفة الحياة، والأبيات هي:
تأمل بحقـــــــــــكَ يا واقفًـــــــا *** ولاحـــــــــــــــظ مكانًا دُفعْنـا إليه
ترابُ الضريح على وَجنتي *** كَأَني لم امش يومًا عليه
أُداوي الأنام حذارَ المنونِ *** وها أنا قد صرتُ رهنًا لديه !