ورطة ترامب في القدس/ د محمد مراح

تشير الخطوات التي سار فيها الرئيس ترامب في قضية القدس أنه وقع في مأزق ربما لم يكن يتوقعه بالضيق الذي هو فيه. وقد يكون من الأدلة الداعمة لهذه الفرضية :
-أنه مهد لقراره بخطوة ربما قدرها ضمانة لإعلان قراره المثير؛ إذ اتصل بحلفائه الغربيين والمحليين المعنيين بشأن القدس، وأحاطهم علما بنيته الاعتراف بالقدس عاصمة للكيان الصهيوني الغاصب. وربما استخلص من ردود أكثر الجهات المتصل بهم أن تعليقاتهم على نيته، قد تدور بين إبداء الرأي الناصح، والمنبه فيما يشبه حالة تقدير موقف.
لكن العاصفة الهوجاء التي أثارها إعلانه شارك في صنعها أخلص وأقرب حلفائه مع أخلص مناوئيه، ومناوئي سياسات بلده التقليدين، ولسنا هنا معنيين بالوقوف عند تفاوت ردود ومواقف هؤلاء وأولئك.
-تسارع وتيرة تصاعد بيان منحنى المعارضة من أغلب دول العالم سواء المقتنعين بمواقفهم الصادقين فيها، أو أصحاب الظاهر الذي يعكس بالضرورة الباطن من الموقف، حتى التقى الجميع عند الموقف الذي عبر عنه أغلب أعضاء مجلس الأمن تأكيدا للمعارضة والرفض، والتصميم على التزام ما استقر عليه الرأي السياسي العالمي من ترك مسألة القدس ووضعها النهائي إلى ما يعرف بمسار التفاوض الفلسطيني والكيان الصهيوني.
-نوعية ردود الفعل من دول عربية تصنف عادة ضمن المحور المعتدل بمعايير الإدارة الأمريكية، وتحديدا الأردن والسلطة الفلسطينية التي سارت في مسار التسوية وفق النغمة العربية والغربية المنخرطة في مشروع التسوية مذ أسلو وذيوله. فقد أتسمت ردود فعل هذين الطرفين بقوة معارضة وحدّة رفض مفاجئين للجميع، ينقلهما إلى صف المقاومة السياسية الصلبة في وجه الخطر الصهيوني –الترامبي البائس. والحق أن هذ مكسب كبير جدا لرهان المقاومة ، وللقضية يحتاج لتثمين جماهيري وسياسي للصمود والاستمرار والثبات عليه.
-ردود الفعل الشعبية الهادرة في جل عواصم ومدن العالم مستنكرة رافضة الخطوة (الترامبية)، فاجتمع بذلك للقرار الرفض الرسمي والشعبي.
والدليل الأقوى الأقطع بتشخيص وضع ترامب إزاء القضية أنه في ورطة، موقفه الاستباقى لاجتماع مجلس الهيئة الأممية لمناقشة القرار والتصويت عليه؛ فقد اتسم بحدة وطيش غير مسبوقتين –على الأقل بالصورة الفجة التي ظهر بها، واللغة التي استعملت فيه. مستخدما وكيلته في الهيئة (هيلي) بطريقة تذكر بأساليب الحكام والدول غير الديمقراطية في استخدام وتوجيه مرؤوسيها.
نعتقد أن كل هذا قد يميل بالفرضية إلى الصواب، فترامب الآن في ورطة لا مُنجد له منها.
والسؤال الآن ما الحال التي سيفضى إليه قراره وردوده الاندفاعية ؟
الموقف من تهديد ترامب وممثلته في الهيئة الأممية فرصة ثمينة لتحقيق إحدى الحسنيين: فإنّ التزام الدول الرافضة لقراره المتهور بشأن القدس بموقفها؛ فتعززه بالتصويت على المشروع المعروض أمام الهيئة؛ أي تؤكد موقفها الرافض للرفس (الترامبي) وهي معظم دول العالم، بما فيها حلفاؤه، بهذا تتكشف له الورطة التي زجّه فيها اليمين المتصهين في إدارته، مما يزيد من وضعه المأزوم، فتلك الحسنى الأولى.
وإن مضت الدول التي يصفها بآخذة أموال أمريكا -أيضا – في موقفها الرافض وصوتت للقرار، وحاول تنفيذ وعيده، فسيجابه بكم من المعارضات القوية من قبل الهيئات الصانعة للقرار الأمريكي والهيئات البرلمانية ؛ لكون الجميع يعرفون أن عوائد تلك الإعانات على مصالح الولايات المتحدة المشروعة وغير المشروعة، النبيلة والوضيعة، أضعافا مضاعفة لإعاناتها. وبالتالي سيضطر أيضا للبحث عن مخرج وضع نفسه فيه بسبب قرارته ومواقفه الانفعالية التي تزيد في هدر ما قد يكون تبقى له من رصيد لدى الرأي العام الداخلي والخارجي، فتكتمل بذا الحسنى الثانية .
ونحن نرجو مُضيّه ووكيلته (هيلي) في غرورهما وعنجهيتهما ووقاحتهما كي ينفضح الجميع على رؤوس الأشهاد.
وفي ختم المقال أحب أن انقل محتوى مراسلة بيني وبين أخي الدرب والروح الكاتب الكبير الأديب الدكتور إبراهيم نويري -حفظه الله ورعاه-، إثر صدور قرار ترامب الفاجر؛ فقد عبّر بأسى بالغ قائلا: (مع كلّ أسف لقد أعطت الصهيونية الانطباع عن أن العالم ما هو إلا غابة واسعة و أن القانون الأوحد فيها هو التغلب و الافتراس و الانقضاض متى تهيأت الظروف ؟
و مما زاد في الأحزان أكثر موقف ” قادة المسلمين ” ؟؟؟.
وأجبته تناغما مع لوعته وحزنه وأساه بما يأتي ذكره : (ها أنت ترسلها مع الأحزان تحيات مترعات بالأسى، مبطنة بالصفاء والنقاء، وهذا من فيض روحكم التي صاغت وجيبها قيم الإسلام العظيم، وصقلت أنفاسها حوداث الزمن الآثم بنوه في حق الحقائق والفطرة ونواميس الكون والحياة التي انسلكت فيهما مع خلقهما ، وانبعاث الإنسان حاملا في تكوينه فطرة الخير وعدم الممانعة بالضرورة في أكثر أحواله من مقارفة الشر و استعذابه
أخي الحبيب يبدو أن الزمن استوفى دروته المئوية فأرسل بارقة الأمل في طيات صرخات أثيم ، تُهيئ على رذاذ صراخه بالقرار الساقط شرارات استعار الموقد تحت أرجل الصهاينة الملاعين
ولما لا ( فعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير كثير) . فقد ضاقت بنا الحقيقة القدسية المقدسية ، فأبت – فيما أقدر -إلا أن تركلنا ركلات بقدم رويبضة الصهيونية، عسى أن تؤثر فينا كدماتها فنستعيد وعينا، ونرتقب أولى خطوات جمع أمرنا ، لنشرع في المسير نحو الهدف الموعود.
إنها الصفعة الثانية الأقوى بعد بلفور، فإن كانت الأولى أركست الأمة وقضيتها في تضييع مسرى نبيها، فقد يجعل الله تعالى في الثانية منهض تخلصيها وأحرارها الذين قد يكونون مختار الله لهم أن يُصيّرهم عباده ذوي البأس الشديد فيجوسون خلال الديار وتُنهى المهزلة العالمية اللعينة.
نسأل المولى تعالى أن يصيرها كذلك، وألا يحرمنا شهودها وشرف الإسهام فيها
وصدق الله العظيم القائل في كتابه الحكيم: {وَقَضَيْنَا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ ۚ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولًا (5) ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6) إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ ۖ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا ۚ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7)} سورة الإسراء.