الدكتور عبد الله الركيبي الأكاديمي الأديب الدبلوماسي
أ. عبد الحميد عبدوس/
عن عمر ناهز 83 سنة، رحل إلى دار البقاء المجاهد والأكاديمي والأديب الدبلوماسي الدكتور عبد الله الركيبي، بعد صراع مع المرض، ودفن بعد صلاة ظهر يوم الاربعاء 20 أفريل2011 بمقبرة سيدي يحيى بحيدرة بالجزائر العاصمة تاركا وراءه تراثا ثقافيا وأدبيا ثريا ومتنوعا، وثلاث أبناء هم هشام وزياد وخليفة.
تعرفت على أستاذي الدكتور الركيبي في سبعينيات القرن الماضي في جامعة الجزائر بمعهد اللغة والأدب العربي حيث كنت أزاول دراستي الجامعية، ثم توثقت علاقتنا في اتحاد الكتاب الجزائريين الذي كان من مؤسسيه ومن هيئته القيادية حيث شغل منصب الأمين العام المساعد للاتحاد في عهد الأديب الكبير الراحل مالك حداد ثم أمينا عاما للاتحاد.
كنت في مطلع ثمانينيات القرن الماضي من بين الأدباء الشباب الذين استضافهم الدكتور الركيبي في برنامجه الشهير «أقلام على الطريق» الذي قال عنه للأديبة والإعلامية الجزائرية فتيحة بوروينة التي حاورته لصحيفة (الرياض) السعودية: «قدمت حوالي ثلاثين أديبا في التلفزة الوطنية وكانوا وقتها شبانا صغار السن وهم اليوم كتاب كبار وأساتذة لامعون وكم تمنيت لو أن تجربة «أقلام على الطريق» تواصلت لنكتشف المواهب التي تحتاج إلى من يتعهدها اليوم ويأخذ بيدها نحو الإبداع والتطور الفني والأدبي».
ولد الدكتور عبد الله خليفة ركيبي في بلدة (جمورة)، بولاية بسكرة عام 1928م، وسجل في الحالة المدنية عام 1930م. تلقى دراسته الابتدائية باللغة العربية والفرنسية في مسقط رأسه، وواصل الدراسة بمعهد عبد الحميد بن باديس بقسنطينة. ثم سافر إلى تونس، وانتسب إلى جامع الزيتونة، وتخرج منه في 6 نوفمبر 1954م. وخلال دراسته في الزيتونة شارك في مسابقة أدبية بقصة قصيرة بعنوان: (الطاغية الأعرج) والتي أرسلت إلى جريدة البصائر لسان حال جمعية العلماء المسلمين الجزائريين التي نشرتها مع صورته باعتبارها باكورة انتاج الدكتور عبد الله الركيبي.
يعتبر الدكتور عبد الله الركيبي من مؤسسي الأدب الجزائري الحديث و من الأوائل الذين درسوا القصة القصيرة والرواية المكتوبة باللغة العربية في الجزائر، وهو كذلك من مؤسسي قطاع التربية والتعليم بعد الاستقلال فقد اشتغل مدرساً بالمعهد الوطني التربوي في 1964م، ثم أستاذا بثانوية حسين داي في السنة الدراسية 1966-1965، وقبل ذلك كان قد دخل ميدان التعليم في مدارس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين بعد رجوعه من تونس في سنة 1954 بشهادة التحصيل من جامع الزيتونة، ولم يلبث أن التحق بالثورة التحريرية في 17 ديسمبر 1954م، وبقي يؤدي مهامه الثورية و يزاول مهنته التعليمية في مدرسة ندرومة قرب تلمسان إلى أن ألقت قوات الاحتلال الفرنسي القبض عليه في سنة 1956 وأخذ إلى معتقل آفلو بالصحراء ولكنه استطاع الفرار من المعتقل ملتحقا ببلدته جمورة بولاية بسكرة ثم هربه بعض المجاهدين إلى تونس عام 1958، وتحصل على وظيفة مراقب بثانوية الصادقية التي تخرج منها كبار القادة والمثقفين التونسيين، ومن تونس طلب من وزارة الثقافة بالحكومة المؤقتة للثورة الجزائرية في عام 1960 منحة دراسية إلى القاهرة التي تخرج من جامعتها بشهادة ليسانس في الادب العربي في سنة 1964. وفي سنة 1966 تحصل على شهادة الماجستيرمن جامعة القاهرة وبعدها نال شهادة الدكتوراه في سنة 1972 من نفس الجامعة بإشراف الدكتورة سهير القلماوي المشهورة بأنها التلميذة المفضلة للمفكر المصري الراحل طه حسين.
ترأس في بداية سبعينيات القرن الماضي، لجنة الفكر العربي، التي كانت تضم نخبة من المثقفين الوطنيين، منهم السفير الراحل عبد القادر حجار، والدكتور عبد الرزاق قسوم الرئيس الحالي لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين، والأستاذ المحامي عبد الله عثامنية. في سنة 1975 كان رئيسا لاتحاد الكتاب الجزائريين وتولى تحضير ورئاسة مؤتمر الكتاب والأدباء العرب الذي احتضنته الجزائر.
خاض الدكتور عبد الله الركيبي معارك ثقافية عديدة دفاعا عن الأصالة والثوابت الوطنية والثقافة واللغة العربية، يقول عن نفسه: «أنا ممن يؤمنون بالصراع الفكري لا من أجل منصب أو منفعة شخصيّة، ومهمّة الإتحاد هي تجميع الملكات وتشجيع المواهب والدفاع عن هوية الشعب وثوابته والإسهام في الإبداع وفي حركية المجتمع وتطلّعه إلى مستقبل زاهر». أما صديقه شيخ المؤرخين الجزائريين الدكتور الراحل أبو القاسم سعد الله فيقول عنه كان ثائرا قبل الثورة، ميالا بنضاله السياسي إلى حزب الشعب، وبانتمائه الثقافي إلى جمعية العلماء. عيّن الدكتور عبد الله الركيبي سفيرا للجزائر لدى سوريا بين 1994 و1996، كما عين ضمن قائمة الثلث الرئاسي عضوا لمجلس الأمة بين 1998 و2000.
صدر أول كتبه في تونس سنة 1959 تحت عنوان (مصرع الطغاة) وهو عبارة عن نص مسرحي. وصدرت مجموعته القصصية الأولى في القاهرة سنة 1962 تحت عنوان نفوس ثائرة. وله عدة كتب في النقد والدراسات الأدبية. ومما يدل على اتقانه للغات الأجنبية (الفرنسية والانجليزية) هوتأليفه لكتاب «الجزائر في عيون الرحالة الإنجليز» الصادر سنة 2007 والذي يعتبر ثمرة تفرغه للبحث بعد منحة دراسية في لندن استفاد منها من سنة 1979 إلى 1981 ويعد بمثابة الدراسة الأولى من نوعها لما كتبه الإنجليز عن الجزائر طوال قرنين من الزمن. وفي سنة 2011 (سنة وفاته) صدر عن دار الكتاب العربي (الاعمال الكاملة لعبد الله ركيبي) في ستة مجلدات.ومن أشهر مؤلفاته كتاب (الفرانكفونية مشرقا ومغربا) الصادر سنة 1992 وكتاب (الهوية بين الثقافة والديمقراطية) الذي صدر عام 2000.
تخرجت على يديه أجيال من الأساتذة والباحثين والمبدعين والأدباء.
قال عنه تلميذه الدكتور الأديب مصطفى فاسي: «عبد الله الركيبي من طينة نادرة، فقد عاش كريما، محبا لطلبته، عاشقا للحياة الأسرية بين أفراد عائلته، ولا شيء كان يستهويه سوى المكوث في بيته المتواضع بين كتبه. وكان الركيبي، زاهدا، تبرع بكتبه لكلية الآداب، وكان صاحب مواقف لا تنسى لما اختير عضوا في مجلس الأمة، فقد رفض أخذ المبلغ المالي المخصص لكراء شقة كما هو معمول به في مجلس الأمة. وقال إنه يسكن في العاصمة، وليس له حاجة لكراء منزل آخر، فبيته المتواضع الكائن بحي شعبي، هو الذي كان يليق به.
أشهد أنا كاتب هذه السطور أن الدكتور الركيبي كان شديد التواضع وشديد الثقة في النفس، ومن الأمثلة على ذلك ما جرى بقاعة المحاضرات في اتحاد الكتاب الجزائريين في السبعينيات حيث نظمت أمسية فكرية أدارها أساتذي الراحل الدكتور عبد الله الركيبي الذي استضاف الفيلسوف المصري الماركسي محمود أمين العالم الذي كان يعتبر إيقونة اليسار العربي في زمن المد الاشتراكي، كان النقاش الذي أعقب مداخلة الضيف ساخنا وراقيا وكان من بين المتدخلين في النقاش الأكاديمي والناقد العراقي الدكتور جميل نصيف التكريتي الذي طرح سؤالا محرجا على الدكتور محمود أمين العالم الذي استفاض في الإجابة وقبل أن يتم المتحدث كلامه تدخل الدكتور الركيبي قائلا: استثمارا للوقت سنأخذ سؤالا آخر،فاحتج الدكتور محمود أمين العالم بصوت غاضب متهما الدكتور الركيبي بأنه صادر حقه في الرد ومنعه من إكمال إجابته وبدا للحظة أن أغلب الحضور في القاعة تعاطفوا مع الدكتور محمود أمين العالم وأن الأمور ستتطور إلى انسحاب الضيف احتجاجا على تصرف منشط الندوة. ولكن الدكتور الركيبي رد عليه بهدوء وثقة قائلا: يبدو أنك لا تعرف الدكتور الركيبي جيدا ،فلو كنت تعرفني لأدركت أنني على استعداد لدفع رقبتي ثمنا لحقك في الدفاع عن فكرك والتعبير عن رأيك. كل ما في الأمر أنني أردت استغلال الوقت وتمكين أكثر عدد من الحاضرين من المساهمة في هذا النقاش الجاد. فعادت الأمور إلى نصابها وانقلب موقف القاعة لصالح الدكتور الركيبي الذي واصل إدارة الندوة ببراعة واقتدار.