الشبــــاب ومحنـة الاغـتـــراب
أ.د. عبد الرزاق قسوم
رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين/
إن من نافل القول التأكيد على بداهة حقيقة معرفية هامة، وهي أن الشباب، يمثل في كل أمة أزهى وأفضل مراحل نمو حياتها. فإذا كانت مرحلة الشباب، في حياة الفرد، تمثل اكتمال القوة البدنية، واعتدال النضج في الملكة العقلية، فإنه أي الشباب يمثل في حياة الأمة رمز الدفاع عن حدودها، وعنوان الحصانة لتثبيت وجودها.
لذلك جاءت العناية بالشباب في كل الأمم، والحث على تنمية بنيته البدنية بالرياضة، وتثقيف عقله بالقراءة والكتابة، والتكفل بميوله وتطلعاته بالتربية والحرابة.
إن الشباب -إذن- هو معيار التقدم أو التخلف في كل أمة، فمن خلال العناية بالمنظومة التربوية الحاضنة للجيل الصاعد وحشد الطاقات المادية والمعنوية، والاقتصادية والعلمية، للتكفل بالجيل الواعد، ترسم، الأمم معالم مستقبلها، وتستثمر في آفاق تقدمها ونهوضها.
هذا وإن الناظر لواقع الشباب في وطننا الجزائري، يكتشف أن الله قد وهبنا، أعظم نعمة وهي شبابية الوطن، التي تمثل أعلى نسبة من سكانه، وهو ما يعتبر سلاحا ذا حدين.
فقد كان الشباب الجزائري في عصر التحدي الاستعماري، رأس الحربة التي قاومنا بها المحتل، فدحرناه، بالسعي والوعي، وبالأمل والعمل، فافتككنا الوطن الغالي من براثن الاستعمار، بعد تقديم الثمن العالي.
وسلّم جيل نوفمبر، الوطن الجزائري مستقلا لمن جاء بعده، يحدوه أمل واحد، وهو أن يكون الخلف خير امتداد للسلف، فيصون الأمانة، ويحسن الصيانة، ويلوذ، في ذلك- بحسن الإبانة، بالتحصن بخير معتقد وأفضل ديانة.
غير أن الرياح قد غدت –أحيانا- تجري بما لا تشتهي السفن. فقد راعنا –والله- أن يدب اليأس والقنوط، إلى بعض شبابنا فيعبر عن ذلك اليأس والقنوط، بالعنف الأعمى، وبالانتحار الأنكى.
إنه ليحز في قلوبنا أن نرى المشاهد المؤلمة، من إلقاء الشباب بنفسه في قوارب الموت، طلبا للاغتراب، وتنكرا للانتساب، والمغامرة من أنوار الشمس إلى آفاق الضباب، فيا للخراب!
أيعقل، أن يفقد شبابنا، كل مقومات الحياة في وطنه الجميل، وريعه الأصيل فيغامر إلى حيث العيش الذليل، هذا إذا نجا من موج البحر، الذي قد يحوله إلى مفقود أو قتيل؟
إن الاغتراب الجغرافي الذي ينشده بعض شبابنا اليوم، بالإلقاء بنفسه، بين أمواج البحار، قد جاء نتيجة الإنسلاب العقلي الذي، استبد بشبابنا فعكر في نفسه صفو الأفكار.
لذلك بات من الضروري على كل مواطن جزائري حر، في أي موضع من المسؤولية، أن يسأل نفسه، ألا أتحمل جانبا من مسؤولية مغامرات هذا الشباب في ما يعانيه من اغتراب في الأفكار أو على صعيد البحار؟
ذلك أن مسؤوليتنا جميعا ثابتة في صنع هذا المشهد الحزين.
فلو وفرنا لهذا الشباب، الحضن الأسري الدافئ، والمحيط المدرسي الكافي، والمناخ المجتمعي الشافي لما ابتلينا بهذا الخطير، من التأزم الثقافي.
إن كل جثة يلفظها البحر في كل زمان وفي كل مكان، هي لعنة الشبان، تلاحق منا كل انسان.
آن الأوان، إذن، أن نعيد النظر في منظومتنا التكوينية للشباب، فتنزع منها كل العناصر السلبية، وتغرس فيها كل المقومات الايجابية، لنوقظ في نفوس فلذات أكبادنا، بوادر الأمل، وحوافز العمل، وإعادة ربطهم، بأحسن ما في الوطن من مزايا ومُثُل.
فليس الوطن كرة قدم تثير فينا حسن المشاعر، والتغني بشباب الجزائر، بل إن الوطن هو أعمق من هذا، حيث يحارب فينا الفكر الحائر، ويقضي على كل سلوك ظالم أو جائر، ويفتح أمامنا مجال العدل الدائر، والاكتفاء الذاتي الباهر، والاعتزاز بالانتماء العميق للوطن الزاهر، والقاهر الذي هو الجزائر.
لقد باتت رحلة الموت التي تلقي بظلالها الكئيبة، تقض مضاجعنا في كل يوم، فكم من خيرة شبابنا صاروا في عداد المفقودين، أو لفظ البحر جثثهم في عداد المقتولين، وحتى الناجون منهم، يواجهون على الضفة الأخرى، ألوان الذل، والمهانة، وأبشع المعاملة من المستقبلين.
بلغ السيل الزُّبَى إذن، من هذه المشاهد المأساوية التي تصنعها محنة الاغتراب والإنسلاب، ونحن أمامها في ذعر وخوف، واضطراب.
أصبح الأمر من الخطورة، بحيث لا بد من دق ناقوس الخطر على جميع المستويات، لنضع حدا لهذه المأساة.
إن وطننا والحمد لله يزخر بكل الوسائل والإمكانيات، ونستطيع لو وضعنا الخطط الناجعة، والفعّالة، والأمينة، أن نحسن التكفل بجميع فآت مواطنين من خيرة الشباب، فنعيد بناء وعيهم المفقود، ونفتح أمامهم آفاق عالم التشغيل المحدود، ونبعثهم في رحلة نحو العالم السعيد المنشود.
عار –والله- على الجزائر، بلد المليون شهيد، أن تدفع بأعز ما تملك من أبنائها نحو المجهول، فتقدم للعالم صورة سيئة عن الوطن المأمول، ونفجع الأمهات في ما تحمله الأخبار من نعي مقتول، أو لفظ شبح مجهول، فمتى يمكن أن نضع حدا لهذا الشبح المعزول؟